تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ـ[أبو أويس المغربي]ــــــــ[09 - 09 - 07, 01:25 م]ـ

جبل علم هوى:

وكان الشيخ النفاخ - برَّد الله مضجعه - جبلاً من جبال العلم الراسخة، وبحراً من بحور الفهم العميقة، بَرَعَ في علوم العربية المختلفة، فأصبح حجةً في كل فن من فنونها، فما شئت من بصر باللغة، وعلم بالنحو، وفهم بالصرف، وتذوق للبلاغة، وإتقان للعروض، ورواية للشعر، ودراية بالأدب والنقد، ومَكِنَةٍ في الأصول، وتضلّع من القراءات القرآنية صحيحها وشاذِّها، ومعرفة بالأحرف السبعة تاريخها وأسرارها، وخبرة بالتراث العربي مخطوطه ومطبوعه، وقدرة على تحليل النصوص والنفاذ إلى خباياها، ودقة في تحقيق المخطوطات واستدرار عطاياها.

ولو شئتُ أن أمضي فيما افْتَنَّ فيه الشيخ لمضيتُ، ولم وسعَتْني هذه الكُلَيمة .. فما كان النفاخ رجلاً كسائر الرجال .. ولكنه أمّةٌ في رجل:

وقالوا الإمامُ قضى نحبَهُ ** وصيحةُ مَنْ قد نعاهُ عَلَتْ

فقلتُ: فما واحدٌ قد مضى ** ولكنَّهُ أمّةٌ قد خَلَتْ

وقد عرفته الجامعة (جامعة دمشق) محاضراً في غير ما فن من فنون العربية ..

حاضر في الأدب الجاهلي فكان أصمعيَّ عصرِهِ، ودرّس المكتبة العربية والمعجمات فكان جوهريَّ دهره، وقرَّر مادة العروض فكان خليلَ وقتِهِ، وأقرأَ الكتابَ القديم فكان مبرّدَ زمانِهِ، وتصدَّى للنحو والصرف فكان سيبويهِ أوانِهِ، وتناول الدراسات اللغوية فكان ابنَ جني عهدِهِ.

مُلقّنٌ مُلْهَمٌ فيما يحاولُهُ ** جمٌّ خواطرُهُ جَوَّابُ آفاقِ

وكان من جميل صنع الله بي أن درست عليه هذه الموادّ جميعاً في سني الدراسة الجامعية العادية والعليا، فتقلَّبت في نُعْمى اختصاصاته، وتدرجت في معارج علومه، ورأيت منه كل عجيبة وغريبة، ورويتُ عنه كل شاذّة وفاذّة، فلا تعجب إن تمثّلت فيه بما أنشده أبو العباس اليشكري في محاسن أبي عمر اللغوي المعروف بغلام ثعلب:

فلو أنني أقسمتُ ما كنت حانثاً ** بأن لم ير الراؤون حَبراً يُعادِلُهْ

هو الشَّخْتُ [4] جسماً والسَّمين فضيلةً ** فأعجِبْ بمهزولٍ سمينٍ فضائلُهْ

تضمّن من دون الحناجر زاخراً ** تغيبُ على من لجَّ فيه سواحلُهْ

إذا قلتُ: شارفنا أواخر علمِهِ ** تفجّر حتى قلتُ: هذي أوائلُه [5]

ـ[أبو أويس المغربي]ــــــــ[09 - 09 - 07, 01:27 م]ـ

بناء الرجال:

وكان له من وراء هذه الجامعة جامعة أخرى تضمه مع النخبة من صحبه ومريديه’, تلكم هي بيته الذي أصبح مثابة لطلاب العلم وقبلة للباحثين، يؤمونه من كل مكان، ويقصدونه في كل وقت وحين، فلم يكن - رحمه الله - يخصص يوماً لندوة أسبوعية أو شهرية، وإنما كانت ندوته تنعقد يوميًّا، لا تكاد تطرق بابه إلا وجدت عنده ضيوفاً تعمر بهم الدار، ويلتئم بهم المجلس، ويدور الحديث في كل علم وفن ومعرفة، والشيخ يزينه ويتوِّجه بعلمه الجمِّ، وتواضعه المحبَّب، وصوته المجلجل، وحديثه المفعم بالحبِّ والعطاء ((إن الكلام يزين ربَّ المجلس)).

ومن الوفاء لذلك المجلس وصاحبه أن نذكر أسماء بعض رواده الذي أفادوا منه، وأصبحوا ملء السمع والبصر، من مثل الأستاذ الدكتور محمود ربداوي، والأستاذ الدكتور رضوان الداية، والأستاذ الدكتور مسعود بوبو - رحمه الله - والأستاذ الدكتور وهب رومية، والأستاذ الدكتور عز الدين البدوي النجار، والأستاذ محسن الخرابة، والأستاذ الدكتور مصطفى الحدري - رحمه الله -، والأستاذة الدكتورة منى إلياس، والأستاذ مطيع الببيلي، والأستاذ الدكتور عدنان درويش، والأستاذ بسام الجابي، والأستاذ نعيم العرقسوسي، والأستاذ إبراهيم الزيبق، والأستاذ الدكتور عبد الله النبهان، والأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الله، والأستاذ الدكتور أحمد راتب حموش، والأستاذ الدكتور طاهر الحمصي، والأستاذ الدكتور محمد الدالي، والأخ الدكتور يحيى مير علم، والدكتور عبد الكريم حسين، والدكتور نبيل أبو عمشة, وكاتب هذه السطور .. وغيرهم كثير.

ترنو إليه الحدَّاث غاديةً ** ولا تملُّ الحديث من عجبِهْ

يزدحمُ الناس كلَّ شارقةٍ ** ببابِهِ مُشرِعين في أدبِهْ

والحقُّ أن الشيخ - رحمه الله - بنى رجالاً، وخلَّف جيلاً من الباحثين يدينون له بالكثير، حتى لقد أصبح شكره لازمةً لا تكاد تخلو منها رسالة جامعية، أو كتاب محقق، أو بحث علمي لغوي في جامعة دمشق، بل لقد تعدى أثر ذلك إلى جامعات أخرى، وإلى مواطن أخرى

يبني الرجالَ وغيرُهُ يبني القرى ** شتّانَ بينَ قرًى وبينَ رجالِ

ـ[أبو أويس المغربي]ــــــــ[09 - 09 - 07, 01:36 م]ـ

صنو النفاخ وقرينه:

وإذا ذكرنا مجلس الأستاذ راتب فلا بد أن نذكر عَلَماً كبيراً وعالماً وزيراً كان يؤمُّهُ، وقد عرفناه فيه قبل أن نعرفه أستاذاً في كلية الآداب، ومشرفاً على رسائل الماجستير والدكتوراه، ومديراً للموسوعة العربية الكبرى، ورئيساً لمجمع اللغة العربية بدمشق، إنه أستاذنا الدكتور شاكر الفحام صِنْوُ النفاخ وقرينُهُ، وأخو الصدق الذي ما انفكَّ يشدُّ من أزره ويدفع عنه، ويحُوطُهُ بعين عنايته في الحِلِّ والسفر والإقامة والغربة، والسرّاء والضرّاء، آسياً ومؤاسياً، وراعياً ومنافحاً.

ما أعرف نفسي دخلتُ المجمع مرةً إلا رأيتهما معاً، وإن أنسَ لا أنسَ موقفين شهدتهما لهذين العالمين المتحابَّين يدلاَّن على العروة الوثقى بينهما:

الأول: دخولهما معاً قاعة المحاضرة على طلبة الدراسات العليا، في أول عام تفتتح فيه الدراسات العليا في جامعة دمشق، إذ أسند تدريس مادة الدراسات اللغوية إلى الأستاذ الدكتور شاكر فكان يصحب معه الأستاذ راتب ليقرئا الطلاب فصولاً من كتاب الخصائص لابن جني.

والثاني: رِباط الأستاذ راتب بجوار غرفة العناية المركزة التي عولج فيها الدكتور شاكر على أثر أزمة قلبية ألمّت به، فلم يبرحها إلا معه، فأيّ محبة هذه؟! وأيُّ وفاءٍ هذا؟! إنه العلمُ الرّحِمُ بين أهله.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير