أعتقد أني لن أجيد غيرها، وكان البعض يعتقد جازما أن الفلسلفة هي خياري الذي لن أتزحزح عنه.
إذا فهل سينجح صديقي " مصطفى" في صرفي عن الفلسلفة إلى التاريخ؟ أقول ـ وبكل صراحة ـ أنه كان سيفشل فشلا ذريعا، وكنت سأخيب أمله لو لم يحدثني عن واحد من أساتذة التاريخ بالمدرسة العليا، واحد ـ قال لي عنه ـ" أنه من المعادن النفيسة، بل ومن الكنوز النادرة التي تزخر بها الجزائر، واحد ستسعد كثيرا لو سنحت لك فرصة الإلتقاء به والتتلمذ على يديه" هكذا قال لي صديقي في حماس غير معهود، ثم أفاض الزميل الناصح مسترسلا في تعداد خلاله ومآثره، وكأن صديقي كان يشفق علي إذا لم أوفق في التتلمذ عليه.
انه خيار صعب يستدعي من أي أحد التريث والتأني قبل الإقدام، وليس من السهل أن أنقلب فجأة بين عشية وضحاها من مولع بالفلسفة غارق فيها إلى مولع بالتاريخ، إن تعلقي بالتاريخ استدعى من صاحبي أياما صرفها في تذكيري بمحاسن التاريخ وفضائله، حتى قلب الجو الفلسفي الذي كنت أعيشه إلى جو كله تاريخ وأحداث، ولكن أشد ما جذبني إلى هذا الفن هو ذلك الأستاذ الذي حدثني عنه صاحبي وأطنب في مدحه وسرد ومناقبه، وحقيقة استوقفني حديث زميلي عن هذا الرجل، واسترعى اهتمامي، حتى وجدتني متشوقا إلى لقاءه ومصافحته والتحدث إليه، قال زميلي " إنه ليس من جنس من درست عليهم، ولا من جنس من سمعت لهم، إنه من معدن نفيس نادر، ومن جنس فريد" وكنت لن أعير هذه العبارات أدنى اهتمام، لو قالها لي واحد من المهوِّلين المنبهرين الذين يصفقون لكل دَعِي متشدق متفيهق، فصديقي ليس من هذا القبيل، كنت أعرف منه النزاهة في الشهادة، والصدق في النصيحة، وخاصة وهو الذي ردَّد على مسامعي كثيرا قول ابن سيرين:" إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" كنت أعرف أن زميلي ليس من المبالغين، وهذا ما جعلني أعير اهتماما بالغا لما أدلاه من شهادات بخصوص هذا الأستاذ، وصديقي بهذا يكون قد رسم في ذهني صورة تزدهي بالألوان، تغري وتستوقف المرء أيَّا كان.
...
وكنت دائما أرغب في الجلوس بين يدي العلماء، العلماء الذين أثنى الله عليهم في كتابه والرسول في حديثه، العلماء الذين قرأت عن كثير منهم، ورأيت كيف كانوا يقطعون المفازات والمهالك، لأجل حديث واحد، وكنت أقول في قرارة نفسي أين أجد هؤلاء العلماء؟ بحثت عنهم في بلدي الصغير كله فلم أجد أحدا؟؟ وأخير بدا يخيَّل إلي أن هؤلاء العلماء قد أقفرت منهم البلاد وانقرضوا وكدت أقطع الأمل في لقائهم، إلى أن جاء صديقي بنبأ ذلك الأستاذ، وقلت لعله آن لي أن أجلس إلى العلماء، وآن لي أن أسعد بالتتلمذ على يد واحد كالذين قرأت عنهم.
...
لم يكن ذلك الأستاذ الذي حدَّثني عنه صديقي مطولا، واخترنا التاريخ أملا في لقائه والتتلمذ على يديه، إلا أستاذنا الكبير:" خالد كبير علال" ـ حفظه الله ورعاه ـ
" خالد كبير علال": اسم لم يطرق قط مسامعي من قبل، كما لم يطرق مسامع كثير من المنتسبين إلى العلم والثقافة في بلادي، فضلا عن غيرها، وهكذا هي الجزائر دائما، وهذا هو حظ علمائها وأبنائها منها، وقد عبر الشاعر "محمد العيد" عن هذه الغربة التي يحياها أهل العلم في الجزائر، وعن ذلك التهميش الذي طالهم فيقول:
ما في الجزائر مجلس أُغنِي به ... نفسي وأستهوي إليه فؤادي
أصبحتُ لامنها ولا من أهلها ... والقوم قومي والبلاد بلادي
ومثله ما قاله الأستاذ الشاعر حمزة بوكوشة:
بئس أرض الجزائر اليوم أرض ... لا تحب الكرام والزعماءَ
بؤرةتبلع النبوغ وتصفو ... للمُرائِي وتفضح الأوفياءَ
وأحسن من هذا وذاك وأبلغ قول الشاعر الجزائري "محمد سعيد الزاهري" ذاتَ يأس:
وتغربت أنشر العلم في قو ... مي، فلم يأبهوا بنشر العلومِ
لم أجد في الشقاء من هو أشقى ... بحياة من علم محرومِ
لا ولا في متاعب الدهر صعبا ... مثل نشر العلوم بين العمومِ
أنا والله عفت فيهم حياتي ... وبقائي فوق هذا الأديمِ
ليتني ما تعلمت حرفا ولا ... أعرف فرقا بين كاف وجيمِ
...
والحاصل أني في آخر الأمر وجدت نفسي مطمئنا كل الإطمئنان لشعبة التاريخ، بل وأخذ ينتابني الخوف من توجيهي غير الوجهة التي استقر عليها رأيي، مما حذا بي إلى الإكثار من الدعاء رجاء أن لا يخيب أملي بعد ان تأكدت رغبتي وصحت عزيمتي في اختيار تلك الشعبة.
¥