تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

صحيح أن بورقيبة لم يعلن توبة ولا هو تراجع عن ضلالاته ولكن هذه الحملة حالت على الأقل دونه والمضي قدما في نقض المزيد من أحكام الشريعة حتى تلك التي أعلن عزمه على نقضها مثل أحكام الميراث، كما أن حملة الشيخ على ضلالات بورقيبة لا سيما بعد نشر تلك الفتاوى في كتاب وتوزيعه على نطاق واسع خلال موسم الحج كان له أثر هام على صعيد الرأي العام بتونس حيث انتشرت نسخ كثيرة من الكتاب في البلاد وتداولتها الأيدي ودارت حولها أحاديث كثيرة بين الناس ولا سيما في وسط العلماء الذين تقوى جانبهم وتعزز بوقوف كبار علماء الإسلام إلى جانبهم. فلا عجب بعد ذلك أن مثلت تلك الفتاوى بذرة مهمة في الأرض التونسية إلى جانب بذور أخرى لن تلبث أن تتفتق عنها خلال سنين عددا الصحوة الإسلامية المعاصرة في نهاية الستينيات. وهو ما يذكر بالدور الذي تقوم به –وقد تعرض التدين في تونس لاجتياح علماني أشد- دروس الشيخ القرضاوي بارك الله له في عمره. في هذه السنين العجاف بتونس.

ابن باز يرعى النبتة المباركة: الحركة الاسلامية في تونس:

كان من الطبيعي أن لا تمر استهتارات بورقيبة بالإسلام التي بلغت حد تحديه الصيام باحتسائه شرابا في نهار رمضان على ملإ من الناس ودعوتهم للتأسي به بزعمه مقاومة التخلف دون رد فعل في بلد سلخ في الإسلام القرون الطوال قلعة عظيمة من قلاعه بل سرعان ما اهتزت الأرض وربت وأنبتت جيلا من الشباب تربى في قصر فرعون ما عتم أن اكتسح قلاع اللائكية وألجأها إلى أضيق الطريق. وصبر بورقيبة للوهلة الأولى حاسبا الأمر طيش شباب وسحابة عابرة مطمئنا إلى أن عمله قد حسم أمر الإسلام إلى الأبد وما هي الا بقايا يحاصرها التطور، لكنه عندما استيقن أن الأمر جد وأن عدوه لم يقض بل هو في نمو متعملق استدار إليه مغلقا بسرعة ملفات العداوات الأخرى معتبرا إياها ثانوية وأعلنها حربا لا هوادة فيها على الإسلام ودعاته. وكان حصاد الجولة الأولى سنة 1981 حوالي 500 من دعاة الإسلام سيقوا إلى السجون وسيموا العذاب، واستأنف بذلك هجمته على رموز الإحياء الإسلامي التي استهان بأمرها لأمد مثل الحجاب الذي بدأ بورقيبة قصته معه منذ وقت مبكر إذ كتب في الثلاثينيات مدافعا عنه في وجه الاحتلال الفرنسي معتبرا إياه رمزا من رموز الذاتية التونسية حتى إذا جاء الاستقلال قلب ظهر المجن. وفي سياق الحرب على الإسلام وتهميش رموزه جاءت حربه على الحجاب فخطب في جمهور كبير محرضا على السفور ودعا إلى المنصة متحجبة ومزق أمام الملإ حجابها فضجت القاعة بالتصفيق، وبذلك انتهى أمر الحجاب حتى ظهر مجددا في بداية السبعينيات فاستأنف بورقيبة الحرب عليه مع أول مواجهة للحركة الإسلامية إذ أصدر قانونا (رقم 108) يحظر فيه ارتداء الحجاب في المدارس وفي سائر المؤسسات الرسمية. وكان تطبيقه يشتد أحيانا ويتباطأ أحيانا أخرى حتى إذا تولى الأمر خليفة بورقيبة تم تطبيقه بشكل حديدي حتى لوحق داخل البيوت ذاتها وصدت المتحجبات حتى عن دخول المستشفيات للعلاج والوضع وحظر حتى على سيارات الأجرة حملهن.

ولقد وجد طلبة العلوم الإسلامية من التونسيين كما وجد مهاجرو الحركة إلى المملكة أجمل الرعاية من طرف الشيخ ابن باز ولم ييأس من مكاتبة القائمين على السلطة التونسية يذكرهم بحقوق الإسلام عليهم. وعندما استبد ببورقيبة سنة 1987 تعطشه للانتقام والارتواء من دماء زعماء الحركة الإسلامية إذ أعطى أمره خلال المحاكمات التي كانت تجري لقيادتهم (حوالي مائة كما شملت حوالي عشرة آلاف من قواعدهم) بإصدار أحكام إعدام على ثلاثين منهم. لقد كانت أياما عصيبة عاشتها البلاد وعاشها الضمير الإسلامي في كل مكان معلقا بين الخوف والرجاء، وكان مهاجرو الحركة بالمملكة يجأرون بعد الله إلى الشيخ فينقلون له الوقائع أولا بأول حتى إذا كانت ليلة إصدار الأحكام ذهبوا إليه عند منتصف الليل ناقلين إليه خوفهم من صدور أحكام إعدام عند الفجر وتنفيذها حالا وحذروه من مغبة حصول مكروه هو قادر على دفعه لو أنه بذل كل جاهه فحرض المسؤولين على التدخل فلم لا يفعل؟ فامتقع وجه الشيخ ورفع سماعة الهاتف طالبا مخاطبة أحد المسؤولين الكبار في المملكة في تلك الساعة المتأخرة وحرضه على التدخل حالا لدى بورقيبة، مثيرا لديه حميته الإسلامية والعربية فأجابه لبيك. وأعطى في الحال أمره -جزاه الله خيرا- بالاتصال ببورقيبة حتى إذا جاء الجواب أنه نائم ترجى إيقاظه فالأمر جلل.

الثابت أن الشيخ لم يدخر وسعا في الدفاع والذب عن الإسلام وأهله وبذل أقصى الوسع في ذلك أكان ذلك زمن بورقيبة أم زمن خليفته الذي كانت هجمته أشد وأعتى إذ لم تستهدف مجرد إضعاف الكيان أو ردعه كما حصل زمن بورقيبة وانما استهدفت الاستئصال وتجفيف ينابيع الإسلام، فلم يدخر الشيخ وسعا في هذه المرحلة من التدخل لدى أعلى سلطة في البلاد ممثلة في خادم الحرمين ذاته شفاه الله طالبا إليه بإلحاح أن يستشفع لدى حاكم تونس في الدعاة الذين كان يعلم الجميع خلال محاكمات 1992 أن خمسين رأسا منهم مطلوبة بإصرار للإعدام ولم يخيب خادم الحرمين-شفاه الله- رجاء الشيخ الذي كان يحظى لديه بكل تقدير وإجلال لا يكاد معهما يرد له طلبا. ومرة أخرى يشاء الله أن يمد في عمر الدعاة سواء أكان ذلك لهذا السبب أم لغيره فالآجال بيد الله. ولقد كتب الله لآلاف من دعاة الإسلام أن يمتحنوا بما امتحن به يوسف ولا يزالون في ظروف عصيبة ينتظرون رحمة الله ثم الدعم من الضمائر المؤمنة ضغطا على السلطة لصالح إطلاق سراح الإسلام والمسلمين كرفع الحظر عن الحجاب والمسجد، وذلك كما فعل تلاميذه من العلماء أئمة الحرمين وقادة الدعوة الإسلامية أمثال الشيخ سلمان العودة والشيخ ناصر العمر والشيخ سفر الجوالي والشيخ سعيد ابن زعير والشيخ ابن جبرين وغيرهم من علماء المملكة والجزيرة قلعة الإسلام الأولى -جزاهم الله عن الإسلام وأهله في تونس كل خير- وذلك متابعة لجهود فقيد الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد المحتسب الشيخ ابن باز أجزل الله المثوبة وأسكنه أعالي الجنان وخلف فيه المملكة وذويه وأمة الإسلام ولا سيما شعب تونس خيرا.

منقول

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير