وعندما أراد بلد كأندونيسيا النهوض باقتصاده استدعى الخبير المشهور (شاخت)، ولكن خطط هذا الخبير لم تنجح في أندونيسيا ونجحت في ألمانيا الغربية، والسبب هو: أن الشعب الأندونيسي لم يرق بعد إلى مستوى (حضارة).
وعندما يتم استيراد الأجهزة الحديثة من أفضل ما أنتجته التقنية الغربية لا يستفاد منها كثيراً في بلادنا، لأنه لا يوجد جو اجتماعي ثقافي يحيط بها ويحفظها، فالنظم الاستبدادية جعلت العقول العلمية تهاجر إلى الغرب.
هذا ما يقصده مالك بن نبي عندما يبدأ ويعيد في موضوع الحضارة، وأن المسلم لا يعيش ولا يتنفس الثقافة الملائمة له، وإنما يحمل أمراض بيئته المتخلفة وهو لا يشعر، ونحن نوافقه من هذا الجانب، ولذلك سنبدأ بعرض بعض المعوقات التي يراها مانعة من دخول المسلم في (بادرة حضارة) وتعرقل مساعيه للانطلاق والنهوض: القابلية للاستعمار: عندما يستعرض مالك بن نبي التاريخ الإسلامي يقسمه إلى فترات ثلاث: 1 - الفترة الروحية التي دخل المسلمون فيها إلى حضارة إسلامية: وتبدأ ببداية البعثة النبوية وتنتهي عند معركة صفين، وتتميز هذه الفترة (بأروع صور الزهد والتقشف التي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثلها الأعلى، كما تتميز بالتضحية من قبل الصحابة مثل: أبي بكر وعثمان وعمر ... ) [13].
وفي هذه الفترة خضعت كل النوازع للإيمان، وغابت كل الأنانيات والعصبيات، واندفع المسلم بكل طاقاته وإمكاناته، وكانت شبكة العلاقات الاجتماعية على أقوى ما يتصوره إنسان، وبلغة علم النفس: فإن الفرد يكون في أحسن ظروفه ويعيش التوازن الدقيق بين: الروح والعقل، أو بين: الروح والمادة.
2 - الفترة العقلية: وتمثل أوج ازدهارها المدنية الإسلامية كالفترة الأموية والعباسية الأولى، وفيها تدون العلوم وتتأسس المدينة ويستبحر العمران- كما يعبر ابن خلدون.
(بيد أن العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، فتشرع في التمرد بالتدريج) [14]، وتضعف قليلاً شبكة العلاقات الاجتماعية ولكن المجتمع يستمر قوياً بالاندفاع الأول؛ حتى يصل لمرحلة تنتهي فيها قوة الاندفاع كمحرك استنفذ آخر قطرة من وقوده، وتنتهي هذه الفترة بانتهاء عصر دولة الموحدين في المغرب.
3 - مرحلة الغرائز التي تستمر حتى بداية هذا القرن: حيث يحاول العالم الإسلامي النهوض، وفي هذه الفترة تتغلب الغرائز الفردية والتفكك الاجتماعي، ويعيش المسلم على هامش التاريخ، والمجتمع مكوَّن من أفراد لا ينقصهم التدين في كثير من الأحيان ولكنه تدين فردي، فهو يحاول إنقاذ نفسه في الآخرة، ولكن لم يعد يملك التماسك الاجتماعي وتسخير ما خلق الله له لبناء حضارة، فهم أفراد من بقايا حضارة يحملون بين جنوبهم ما يسميه مالك بن نبي (القابلية للاستعمار)، فالمجتمعات الإسلامية المعاصرة لم تُستعمر إلا لوجود هذه القابلية لديها، وقد يتعرض بلد من البلدان للاحتلال والغزو ولكنه يقاوم، أما الاستعمار فهو صفات نفسية في المستَعمِر والمستعمَر، فهناك فرق بين الاستعمار والاحتلال، وقد استعمرت بريطانيا بلداً كبيراً كالهند ولكن إقليماً صغيراً كإيرلندا الشمالية استعصى عليها، وإن بلداً كاليمن لم يدخله الاستعمار ولكنه مصاب بنفس أمراض العالم الإسلامي.
وقبل أن نمضي مع مالك بن نبي في تحليله للفترة الثالثة، لابد من إبداء تحفظ على هذا التقسيم الحاد للتاريخ الإسلامي الذي يبدو فيه أقرب إلى عقلية المهندس [15] منه إلى عقلية المؤرخ، فتركيزه على صِفِّين جعل حكمه قاسياً على الفترة التي أعقبتها، بل وقع في أخطاء تاريخية وشرعية، والضعف العلمي الذي غلب على الأمة الإسلامية إنما هو بعد القرن التاسع وليس بعد الموحدين مباشرة.
وقد عبر ابن خلدون عن هذه الحالة بنبرة الأسى والحزن: (وكأني بالمشرق قد نزل به ما قد نزل بالمغرب ولكن على مقدار ونسبة عمران، وكأنما لسان السكون ينادي في العالم بالنوم والخمول فأجاب) [16]، ومجيء دولة قوية كالدولة العثمانية لم يغير من الناحية الحضارية شيئاً، حتى إذا جاء القرن الثاني عشر الهجري كانت الأمة الإسلامية في غاية الضعف والتمزق.
(وأصبحت دوافع الحياة فاترة، يعبر عنها قول أحدهم عندما يسأل عن مهمة حياته: (نأكل القوت وننتظر الموت) [17].
¥