ولكن جنكيز خان كان مصرًا على اللقاء فأسرع خلف جلال الدين .. !! وبدأ جلال الدين يفعل مثلما فعل أبوه من قبل .. !! لقد بدأ ينتقل من مدينة إلى مدينة متوجهًا إلى الجنوب حتى وصل إلى نهر السند، وهناك دارت معركة رهيبة بين الطرفين بكل معاني الكلمة .. حتى إن المشاهدين لها قالوا: إن كل ما مضى من الحروب كان لعبًا بالنسبة إلى هذا القتال، واستمر اللقاء الدامي ثلاثة أيام متصلة، واستحَرَّ القتل في الفريقين، وكان ممن قتل في صفوف المسلمين الأمير "ملك خان" والذي كان قد تصارع من قبل مع سيف الدين بغراق على الغنائم، وها هو لم يظفر من الدنيا بشيء، بل ها هي الدنيا قد قتلته، ولم يتجاوز لحظة موته بدقيقة واحدة .. ولكن شتَّان بين من يموت وهو ناصر للمسلمين بكل طاقته، ومن يموت وقد تسبب بصراعه في فتنة أدَّت إلى هزيمة مرة ..
وفي اليوم الرابع انفصلت الجيوش لكثرة القتل، وبدأ كل طرف يعيد حساباته، ويرتب أوراقه، ويضمد جراحه, ويعد عدته .. وبينما هم في هذه الهدنة المؤقتة إذ جاءت السفن إلى نهر السند؛ فقرر جلال الدين الهروب فيها ومعه خاصته إلى بلاد الهند، وتركوا التتار على الناحية الغربية من نهر السند ..
ولكن .. هل ترك المسلمون التتار وحدهم في هذا الأرض؟
كلا .. إنما تركوهم مع بلاد المسلمين، ومدن المسلمين، وقرى المسلمين تركوهم مع المدنيين دون حماية عسكرية، وجيوش التتار لا تفرق بين مدني وعسكري بالإضافة إلى الحقد الشديد في قلب جنكيز خان نتيجة كثرة القتلى من التتار في الأيام الأخيرة؛ فانقلب جنكيز خان على بلاد المسلمين يصب عليها جام غضبه .. ويفعل بها ما اعتاد التتار أن يفعلوه وأكثر ..
وكانت أشد المدن معاناة هي مدينة "غزنة" والتي انتصر عندها المسلمون منذ أيام أو شهور عندما كانوا متحدين، دخل جنكيز خان المدينة الكبيرة عاصمة جلال الدين بن خوارزم؛ فقتل كل رجالها بلا استثناء وسبى كل الحريم بلا استثناء، وأحرق كل الديار بلا استثناء .. !! وتركها كما يقول ابن الأثير: خاوية على عروشها، كأن لم تَغْنَ بالأمس .. !!
وكان في جملة الذين أمسك بهم جنكيز خان من أهل المدن أطفال جلال الدين بن خوارزم، وقد أمر جنكيز خان بذبحهم جميعًا، وهكذا ذاق جلال الدين من نفس المرارة التي ذاقها الملايين من شعبه ..
روى البيهقي بسند صحيح، رواته ثقات إلا أنه من مراسيل أبي قلابة رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كن كما شئت، كما تدين تدان" ..
وبذلك حقق جنكيز خان حلمًا غاليًا ما كان يتوقع أن يكون بهذه السهولة، وهذا الحلم هو احتلال "أفغانستان" .. !!
وبذلك يكون التتار قد وصلوا من الصين إلى كازاخستان ثم أوزبكستان ثم تركمستان ثم أفغانستان ثم إيران ثم أذربيجان ثم أرمينيا ثم جورجيا وقد اقتربوا جدًا من العراق ..
كل هذا في سنة واحدة، في سنة 617هـ ..
وفي سنة 618 هـ عاد التتار إلى أذربيجان المسلم من جديد، ودخلوا مدينة "مراغة" المسلمة، ووضعوا السيف في أهلها، فقُتل منهم ما يخرج عن الحدِّ والإحصاء، ونهبوا كل ما صلح لهم وكل ما استطاعوا حمله، أما ما كانوا يعجزون عن حمله فكانوا يحرقونه كله، ولقد كانوا يأتون بالحرير الثمين كأمثال التلال فيضرمون فيه النار ..
التهديد بغزو شمال العراق:
وبدأ التتار يفكرون في غزو مدينة "أربيل" في شمال العراق ودب الرعب في مدينة أربيل، وكذلك في مدينة الموصل في غرب أربيل، وفكر بعض أهلها في الجلاء عنها للهروب من طريق التتار، وخشي الخليفة العباسي "الناصر لدين الله" أن يعدل التتار عن مدينة أربيل لطبيعتها الجبلية، فيتجهوا إلى بغدد بدلاً منها، فبدأ يفيق من السبات العميق الذي أصابه في السنوات السابقة، وبدأ يستنفر الناس لملاقاة التتار في أربيل إذا وصلوا إليها، وأُعلِنت حالة الاستنفار العام في كل المدن العراقية، وبدأ جيش الخلافة العباسية في التجهز ..
ترى كم من الرجال استطاع الخليفة أن يجمع؟
لقد جمع الخليفة العباسي "الناصر لدين الله" ثمانمائة رجل فقط!!
ولا ندري كيف سينصر الخليفةُ دينَ الله -كما يوحي بذلك اسمه- بثمانمائة رجل؟!
أين الجيش القوي؟! وأين الحماية للخلافة؟! وأين التربية العسكرية وأين الروح الجهادية؟! لم يكن الناصر لدين الله خليفة، وإنما كان "صورة" خليفة .. أو شبح خليفة ..
¥