ولم يستطع قائد الجيش"مظفر الدين" طبعًا أن يلتقي بالتتار بهذا العدد الهزيل .. ولكن انسحب بالجيش، ومع ذلك سبحان الله فقد شعر التتار أن هذه خدعة، وأن هذه هي مقدمة العسكر فليس من المعقول أن جيش الخلافة العباسية المرهوبة لا يزيد عن ثمانمائة جندي فقط .. ولذلك قرروا تجنب المعركة وانسحبوا بجيوشهم ..
وانسحاب جيوش التتار يحتاج من إلى وقفة وتحليل .. فقد كان الرعب يملأ التتار من إمكانيات الخلافة العباسية التي كانت ملء سمع وبصر الدنيا، كانت تزهو على غيرها من الأمم بتاريخ طويل، وأمجاد عظيمة، ولا شك أن دولة لقيطة مثل دولة التتار ليس لها على وجه الأرض إلا بضع سنوات ستحسب ألف حساب لدولة هائلة يمتد تاريخها إلى أكثر من خمسمائة سنة؛ ولذا فالتتار كانوا يقدرون إمكانيات العراق بأكثر من الحقيقة بكثير، ومن ثَمَّ فقد آثروا ألا يدخلوا مع الخلافة في صدام مباشر، واستبدلوا بذلك ما يعرف "بحرب الاستنزاف" وذلك عن طريق الحصار الطويل المستمر، وأيضًا عن طريق عقد الأحلاف والاتفاقيات مع الدول والإمارات المجاورة لتسهيل الحرب ضد العراق في الوقت المناسب ..
لذلك فقد انسحب التتار بإرادتهم ليطول بذلك عمر العراق عدة سنوات أخرى ..
اجتياح همدان وأردويل:
وهما من مدن إيران حاليًا، وقد حاصر التتار همدان، ثم دار القتال بعد ذلك مع أهلها بعد أن انقطع عنهم الطعام، ووقعت مقتلة عظيمة في الطرفين، لكن في النهاية انتصر التتار، واجتاحوا البلد، وسفكوا دماء أهلها وأحرقوا ديارها، ثم تجاوزوها إلى أردويل فملكوها وقتلوا من فيها وخربوا وأحرقوا ..
على أبواب تبريز:
واتجه التتار إلى تبريز المدينة الإيرانية الكبيرة، ولكنهم لم يستطيعوا دخولها لأن أهلها بقيادة "شمس الدين الطغرائي" رفعوا راية الجهاد في سبيل الله، فأُلقِي الرعب في قلوب التتار على الرغم من كثرتهم، وقلة أهل تبريز ..
لقد نُصِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر، وكذلك يُنصَر بالرعب كلُّ من سار على طريقه صلى الله عليه سلم ..
لقد فعل الجهاد فعله المتوقع .. بل إن القوم لم يجاهدوا، ولكنهم -فقط- عقدوا النية الصادقة، وأعدوا الإعداد المستطاع، فتحقق الوعد الرباني الذي لا خُلْفَ له وهو وقوع الرهبة في قلوب أعداء الأمة .. وهذا درس لا يُنسى ..
"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون" (الأنفال: 60) ..
فكانت هذه صورة مشرقة في وسط هذا الركام المظلم ..
ورحم الله شمس الدين الطغرائي الذي جدَّد الدين في هذه المدينة المسلمة تبريز ..
اجتياح بيلقان:
وهي من مدن إيران حاليًا، وللأسف فإنها لم تفعل مثل فعل تبريز، ودخل التتار البلدة في رمضان 618هـ، ووضعوا فيها السيف، فلم يبُقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة، حتى إنهم كما يقول بن الأثير: كانوا يشقون بطون الحبالى ويقتلون الأجنة، وكانوا يرتكبون الفاحشة مع النساء ثم يقتلونهن، ولما فرغوا من البشر في المدينة نهبوا وخرَّبوا وأحرقوا كعادتهم .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
على أبواب كنجة:
وسار التتار إلى مدينة كنجة المسلمة، وفعل أهلها مثلما فعل أهل تبريز، وفعل مثلما فعلوا مع أهل تبريز ..
لقد أعلن أهل كنجة الجهاد وأعدوا العدة المستطاعة، فما دخل تتري واحد مدينتهم بل تركوها إلى غيرها ..
اجتياح داغستان والشيشان:
وتقعان في شمال أذربيجان على ساحل بحر قزوين من ناحية البحر الغربية، وهما من البلاد المسلمة الواقعة تحت الاحتلال الروسي الآن، نسأل الله لهما التحرير الكامل، قد قام التتار كعادتهم بتدمير كل شئ في هذه البلاد، وقتلوا معظم من وجدوه في طريقهم وكانت أشد المدن معاناة من التتار هي مدينة شماخي المسلمة (في داغستان الآن) ..
اجتاح الجنوب الغربي من روسيا:
استمر التتار في صعودهم في اتجاه الشمال، وبعد الانتهاء من الشيشان وصلوا إلى حوض نهر الفولجا الروسي، واستمروا في قتال أهل هذه المناطق، وكانوا جميعًا من النصارى، وأثخنوا فيهم القتل، وارتكبوا معهم من الفظائع ما كانوا يرتكبونه مع المسلمين ..
وبذلك انتهت سنة 618هـ وقد وصل التتار إلى أرض الروس، وأصبحت كل البلاد ما بين شرق الصين وجنوب غرب روسيا ملكًا لهم ..
¥