ولا يكاد عبد الملك بن مروان يلتقط أنفاسه ليتفرغ للبناء والتعمير، ومواصلة الفتوح حتى يرى أن جماعات الشيعة فى مدن العراق مثل الكوفة تشكل خطرًا على الدولة؛ بسبب قربها من بلاد فارس، التى رأى أهلها فى الشيعة خير سبيل لتحقيق أطماعهم القومية فى ضرب الأمويين باعتبارهم ممثلين للعنصر العربى وسلطانه فى الدولة الإسلامية، وركز الفرس نشاطهم فى سبيل وصول أبناء الحسين بن على بن أبى طالب إلى منصب الخلافة، مدعين بأنهم من سلالة الحسين؛ وذلك لأنه تزوج من شهر بانوه بنت يزدجرد الثالث آخر أكاسرة الفرس، وزعموا أن تلك السلالة من أبناء الحسين تجمع بين دم عربى، وأشرف دم فارسى.
وتصدى الحجاج بن يوسف لهذه الفتنة مرة أخرى، ويحقق الأمن والاستقرار فى ربوع البلاد.
ويصدر الأمر من الخليفة الأموى بأن يتولى الحجاج أمر العراق والمشرق الإسلامى، ويسير إليها فى جيش من أهل الشام.
وكان الحجاج شديدًا عنيفًا، فراح يواجه عدة ثورات كانت إحداها بقيادة "عبد الرحمن بن الأشعث".
وتدور معارك شرسة مثل "دير الجماجم" بين الجيش الأموى وبين جيش ابن الأشعث، يتبادل فيها الفريقان النصر والهزيمة، وتستمر سجالا بينهما فى أكثر من ثمانين موقعة، تدور الدائرة بعدها على ابن الأشعث، فيهرب إلى بلاد الهند. ولكن الحجاج يرسل من يلاحقه ويتابعه حتى يأتى إليه برأسه فى الكوفة.
وهكذا استطاع الحجاج إخضاع بلاد العراق وما والاها من بلاد المشرق لسلطان عبد الملك بن مروان، وبهذا توطدت دعائم الدولة فى عهده، وانتشر الأمن فى البلاد، ويتفرغ عبد الملك لجانب من الإصلاح الداخلى، فيصدر أمره بصك الدنانير الإسلامية، عليها شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله بسم الله، فكان أول من ضرب الدنانير والدراهم الإسلامية، لتحمل محل العملة البيزنطية فيتحقق للدولة استقلالها المالى والاقتصادى.
وأصدر أمره بجعل اللغة العربية هى اللغة الرسمية التى تكتب بها الدواوين فى أرجاء الدولة، وينفذ ابنه عبد الله بن عبدالملك بن مروان والى مصر هذه التعليمات؛ حيث كانت مصر ما تزال تكتب باللغة القبطية، بما أدى إلى انتشار اللغة العربية لغة القرآن والحديث، فهى بلا شك إحدى المقومات الأساسية للدولة الإسلامية.
وسوف تظل هذا الخطوة الرائدة صفحة مضيئة يسجلها التاريخ لعبد الملك بن مروان على مر الزمان.
الفتوحات الإسلامية فى عهد عبدالملك:
وبعد أن استقرت الدولة فى الداخل، وتم القضاء على الفتن والثورات، راح عبد الملك يواصل ما بدأه السابقون من الفتوحات، ويعمل على تأمين الحدود التى تعرضت للإغارة والمهاجمة والاستيلاء على بعضها من جانب الروم، منذ أن أصدر معاوية أمره إلى الجيش الذى كان يحاصر القسطنطينية بالعودة إلى البلاد، وتمكن عبد الملك من استرداد الثغور الإسلامية، وإخضاع أرمينية، وسواحل سورية، وكثير من الثغور الإسلامية، وفَتْح عدد من حصون الروم منها: "مرعش" و"عمورية" و"أنطاكية"، وأظهر للروم أن الدولة الإسلامية باقية، وأنها لم تضعف ولم تهن!
وما كاد عام 62هـ/682م يأتى حتى صدر الأمر بأن يتولى "عقبة بن نافع" إفريقية للمرة الثانية؛ ليواصل حروبه وفتوحاته، ويتمكن من فتح الجزائر، ويتوغل نحو بلاد "السوس" فى المغرب الأقصى.
وكان عقبة فى عهد معاوية قد انطلق بجيوشه إلى إفريقية واستولى عليها واختار "القيروان" قاعدة له، ولكن بعد الانتهاء من بناء القيروان صدر قرار بتعديل القيادة العليا بالميدان الإفريقى سنة 55هـ/ 675م.
فقد استعمل معاوية بن أبى سفيان مسلمة بن مخلد على مصر وإفريقية، فاستعمل مسلمة على إفريقية مولى له يقال له "أبو المهاجر" فلما وصلها عزل عقبة.
وكان معاوية يهدف من ذلك إلى مواجهة الإمبراطورية البيزنطية صاحبة السيادة إذ ذاك على شمال إفريقية، ومحاولاتها إيقاف الزحف الإسلامى المنتظر من القيروان.
واستطاع "أبو المهاجر دينار" أن يفسد خطط البيزنطيين باكتساب البربر إليه، ونشر الإسلام بينهم.
وتجلّى نجاح هذا القائد حين اكتسب إلى صفوفه زعيم قبيلة البربر وهو "كسيلة" فدعاه إلى الإسلام، فأسلم وترتب على ذلك انتشار الإسلام بين كثير من البربر، فراحوا يتفهمون حقيقة الإسلام، ويقبلون عليه، وراح الفتح الإسلامى فى شمال إفريقية يمتد وينتشر.
¥