تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولما آن الأوان لأن تفجع اللغة و الوطن به آذنت شمس حياته بالمغيب هم بالعودة إلى لبنان ليموت فيه بين أهله ومواطنيه فوافته منيته قبل أن يدرك أمنيته.

وقبل وفاته بأيام سأل حرمه أن تشترك معه في إحصاء عدد الذين سبقوه إلى عالم الأرواح من خلانه وأصدقائه وذكر 181 نفساً قال إن أعزهم لديه: سامي باشا ونجله صبحي باشا وكمال باشا وعالي باشا وفؤاد باشا – وهم من أقطاب الدولة في ذلك الحين – وأستاذان يعرف لهما فضلهما عليه هما: الشيخ شهاب الدين الخفاجي و السيد نصر الله الطرابلسي الحلبي، وهما اللذان أتم عليهما دروسه في العلوم العربية وهو في مصر.

موته في الأستانة: وفي أول سبتمبر (أيلول) انحرفت صحته، ونجله سليم في باريس، وحدثته نفسه بدنو أجله فارتبك، وكان الأستاذ نجيب هندية أحد محرري جريدة القاهرة التي أنشأها سليم ملازماً له وقتئذ، فأنبأه بأنه قلق البال مضطرب الأفكار وأوعز إليه أن يستقدم ابنه من باريس على جناح السرعة ففعل. وفي صباح 19 سبتمبر وصل إلى الآستانة فابتهج فارس بلقياه وانتعشت نفسه وخيل إلى أسرته أنه بات في منجاة من الخطر، ولكن ما غربت شمس اليوم التالي، وهو يوم الثلاثاء الواقع في 20 سبتمبر، حتى ساءت حاله. وبعد أن طبع قبلة على جبين نجله اتكأ على الوسادة واستغرق في النوم ثم استيقظ يقظة الموت. وفي الساعة الثامنة و الدقيقة العاشرة من تلك الليلة نفسها لفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي نجله سليم.

وكان لوفاته دوي عظيم تردد صداه في أنحاء الشرق و الغرب. وفي صباح الأربعاء ظهرت صحف الآستانة مطوقة بالسواد حداداً عليه، ورثاه كتابها بمقالات ضافية عددوا فيها مآثره ذاكرين فضله على اللغة و العلم. ووصلت صحف لندره وباريس فإذا بها تنعيه لقرائها بعبارات مؤثرة تشف عن تقديرها لعلمه وفضله. وطير منعاه إلى الأقطار العربية فأكبرت فجيعة العرب فيه وأبدعت صحفها في رثائه ووصف جهاده. ورثاه الشعراء و الكتاب في كل ناد وصقع بينهم طائفة مختارة من أئمة اللغة وأقطاب الأقطار الشرقية وأمراؤها وعظماؤها. وبالإجمال، إن وفاته عدت في المحافل العلمية و الأندية العلمية و السياسية، سواء في الآستانة أو في الممالك الإسلامية أو الأوروبية، خسارة عظيمة على أهل الأدب و الفضل في الأقطار العربية.

وكان فارس أوصى بأن يدفن في وطنه لبنان. وعملاً بوصيته هذه حنطت جثته ووضعت في تابوت من الرصاص، ووضع هذا التابوت في تابوت آخر من الجوز، ثم في صندوق متين من الخشب. ونقل النعش أولاً من قصره في ((قاضي كوي)) إلى قصر نجله سليم المجاور لنظارة المعارف.

وفي صباح الخميس في 29 سبتمبر غصّ القصر بالمعزين من الأمراء و النبلاء و العلماء و رجال الفضل والأدب وطنيين وأجانب وأرباب المناصب العالية من ملكيين وعسكريين بينهم كثير من الصدور العظام السابقين و الوزراء وأقطاب الدولة وكبراؤها، نظير منيف باشا ناظر المعارف العمومية وكبار موظفي نظارته، وأعضاء مجلس المعارف الكبير، وحسن فهمي باشا ناظر العدلية سابقاً، وصاحب السماحة الشيخ محمد ظافر أفندي شيخ جلالة الخليفة وأنجاله وأنسباؤه وشقيقه، وصاحب السماحة الشيخ حمزة أفندي، وكبار موظفي نظارتي النافعة و التجارة، ومحمد سعدي أفندي مكتوبي النظارتين، وصهر نامق باشا يارو السلطان، وموظفو مجلس شورى الدولة، وصاحب السيادة السيد إسمعيل أفندي نقيب أشراف مكة المكرمة وعربي زروق باشا من أمراء تونس، وأحمد عزت باشا الفاروقي، وسليم أفندي المدير العام لإدارة الديون العمومية، وغيرهم من كبار رجال الدولة. ووصل سفراء فرنسا وروسيا وإيران ومندوبو البنك العثماني وأعيان الأجانب و المحامون و الأطباء وكبار التجار، وأصحاب صحف الآستانة وكتابها، ومراسلو الصحف الأوربية ومندوبو شركتي روتر وهافاس، وجم غفير من مشايخ الطرق وسواهم. وخرج الموكب من القصر في نظام بديع بين صفين من الجماهير المحتشدة على جانبي الطريق حتى الميناء. فكان مشهداً فخماً رائعاً قلما شهدت الآستانة مثله، وكان إثنان من وزراء الدولة الفخام يرافقان نجل الفقيد ويعزيانه. ونقلت الجثة إلى الباخرة النمسوية التي أعدت لنقلها إلى لبنان على زورق جميل نشرت فوقه الأعلام منكسة بين صفين من الزوارق تقل عظماء الدولة وكبراءها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير