تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الفن لفظة جوفاء يستتر وراءها كل صفيق الفكر، أما العبقري فيخلق فنه، وعلى الذرية أن تضع المقاييس، فشكسبير وراسين كانا قبل فرويد. وهكذا فعل نابغتنا العظيم، ولكنه لم يجرؤ على الطفرة، فوضع كما يقول الفلاح اللبناني:رِجلاً في البور. فرأيناه تارة يسجع، وطوراً يدع السجع هازئاً، ثم يعود إلى تلك الرجل الخشبية، وكأنه يأبى إلا أن يكون له ما كان لأهل زمانه، فكتب أربع مقامات،ولكن في أغراض غير أغراضهم، فطمست روح المعلم معالم التقاليد، ولا عجب فهو ممن يصنعون القالب على الرِجل، لا الرِجل على القالب.

وبينا نحن نقرأ ازدراءه القديم إذا بنا نراه ينهج نهجهم في عناوين كتبه (الواسطة في أحوال مالطة)((كشف المخبا عن فنون أوربا)((سر الليال في القلب والإبداع)((السند الراوي في الصرف الفرنساوي)((الباكورة السنية في نحو اللغة الإنكليزية))، وأخيراً ((غنية الطالب ومنية الراغب)) على وزن بحث المطالب، إلخ. كل هذا يدلني على أن عقلنا مهما كبر وتجرد من قيود الماضي فلا بد أن يظل عالقاً بشيء منه فلا يتفلت منه بسهولة، و الخوف من الغد يزيد هذه الأمور تمكيناً. وإذا تساءلنا:هل الشدياق عالم أو فيلسوف أو مؤرخ؟ كل شيء من هذا وليس بشيء منه،فهو لا تعنيه إلا أخلاق البشر من حيث الاجتماع فقط، واستنباطه من الواقع. فالمرئيات كما قلنا نواة أدبه، تلقى في أرض أسلوبه المغلال، فتعطي الواحدة مئة، كالحبة التي ضربها الإنجيل مثلاً. وقد تكون الفكرة مبتذلة فيجلوها المعلم، كجنان النواسي، فتفضح العروس وتفتن النظارة.

ذوقه الفني:

لا أعلم لماذا يعجبني فن هذا الرجل، فإذا قرأت الفارياق أنكرت أن يكون سيرة حياة، فهو عندي قصة رائعة، وهل نكتب غير قصتنا قصة غيرنا. ماذا كان يقصد أحمد فارس حين ترك الأرقام التاريخية في فارياقه؟ وماذا كان يقصد حين جرد من نفسه شخصاً سماه الفارياق فكتب قصته بلسانه؟ أي فن أراد، وأي إحساس أحس حين فعل هذا؟ أما قرأت أن نقاد الغرب أعجبوا اليوم بأندره مروا لأنه فعل ما فعله الشدياق منذ قرن؟ إنني لواثق بأن شدياقنا كامل الذوق، وهو لو لم ينفق جل حياته في شؤون أخرى لما قصر في الفن والأدب عن أعاظم رجاله اليوم. وإليك نموذجاً يدلك على ذوق إمامنا الفني. قال في الرقص:

((وكان للحاكم عادة [في مالطة] أن يدعو جميع المعروفين في خدمته إلى ليلة عيد يرقص فيها الرجال و النساء بحضرته، وكان من جملة المدعوين الفارياق وزوجته. فلما رأت هذه الرجال يرقصون وهم مخاصرون للنساء قالت لزوجها: هل هؤلاء النساء أزواج هؤلاء الرجال؟ قال: منهن هكذا، ومنهن بخلاف ذلك. قالت: وكيف يخاصرونهن إذاً؟ قال، هذه عادة القوم هنا وفي سائر بلاد الإفرنج. قالت وبعد المخاصرة ما يكون منهم؟ قال: لا أدري، ولكن بعد انفضاض الناس يذهب كل إلى منزله. قالت: أشهد بالله إنه ما خاصر رجل امرأة إلا باطنها! قال: لا تسيئي الظن، إنها عادة مشوا عليها. قالت: نعم، هي عادة ونعمت العادة، ولكن كيف يكون إحساس المرأة حين يلمسها رجل جميل في خصرها؟ فقلت: لا أدري، إنما أنا رجل لا امرأة. قالت: ولكن أنا أدري، إن الخصر إنما جعله الله في الوسط مركزاً للإحساس الفوقي و التحتي، ولذلك كانت النساء عن الرقص و القرص في أي موضع كان من أجسامهن يبدين الحركة في الخصر. ثم تنفست الصعداء وقالت: يا ليت أهلي علموني الرقص، فما أرى فيه لأنثى نقص. فقلت: لو فتحت ((الصاد)) في كل من المصراعين لكان بيتاً مطلقاً.

يا للفضيحة بين الأنام، أتقول هذا الكلام في هذا المقام. فقلت: هيت إلى البيت، فقد كفاني ما سمعت الليلة وما رأيت. قالت: لا بد من أرى ختام الرقص. قال: فلبثنا إلى الصباح، ثم انصرفت بها فكانت تقول وهي سائرة: نساء مع رجال راقصات، رجال مع نساء راقصون، راقصات راقصون راقصات. فقلت فاعلات فاعلون، فاعلون فاعلات! قالت الرجال و النساء و البنون و البنات. كيف، متى، أين؟ [الساق على الساق، ص223]. أرأيت كيف يتحدث وينهي حديثه عن الرقص، إنه رقص وزيادة. وهذا هو الفن الكامل – تبحر كثيراً في هذا الكلام لتفهم قليلاً، أو كلف أحد العارفين بشرحه لك، وإلا فيا ضياع تعبي.

أحمد الهجّاء:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير