كاتب اهتدى إلى ذاته العظمى، وكان مغامراً فلم يخف على أسلوبه من الموت، فأرسله في العالم العربي، غير مبالي بضواطير الأدب، ولا بمن صدئت عقولهم لنومتهم العبودية في أقبية التقاليد. كان معلم الجيل في تآليفه الكثيرة ومحدثه الدائم في جوائبه أوتي قوة الاختراع فعبر عن فكره الطريف بأسلوب ظريف، فهو مخترع أبداً حتى في الفصول السياسية والأخبار المحلية. مبتكر في التعبير خاصة. خلق منطقياً جدلياً، فجاء فارياقه ملآن بالتعابير الفجائية التي يسوق إليها الحوار. وهو لم يفته شيء من الأصول الفنية، فأدرك أن ما أنطق به الفارياقية - زوجته – لا يتفق وعلمها، فاعتذر في مقدمة كتابه، وهكذا نجا من المؤاخذة. وقد أنبأني ما لاحظت في آثاره الأدبية أن مولانا الشيخ من قطاع الطرق في الأدب لا يدع سبيلاً لمتربص به، بل يسد عليه الدروب كلها. وهذا أيضاً من خواص دماغه الكبير.
أدرك المعلم أن السجع - وهو لم يسلم منه - مرض عصور الأدب فقال ((السجع للمؤلف كالرِجل من خشب للماشي، فينبغي لي أن لا أتوكاً عليه في جميع طرق التعبير لئلا تضيق بي مذاهبه ... ولقد رأيت أن كلفة السجع أشق من كلفة النظم ... ومَن أحب أن يسمع الكلام كله مسجعاً مقفى وموشحاً بالاستعارات ومحسّناً بالكنايات فعليه بمقامات الحريري أو بالنوابغ للزمخشري)) (الساق على الساق، ج1، ص 47). ((فأما إذا تعنَّت عليَّ أحد بكون عبارتي غير بليغة، أي متبّلة بتوابل التجنيس والترصيع و الاستعارات والكنايات فأقول له: إنني لما تقيدت بخدمة جنابه في إنشاء هذا المؤلَّف لم يكن يخطر ببالي التفتازاني و السكاكي والآدمي و الواحدي والزمخشري والبستي وابن المعتز وابن النبيه وابن نُبَاتة،وإنما كانت خواطري كلها مشتغلة بوصف الجمال ..... وبغبطة من خوّله الله عزة الحسن، وبرثاء من حرمه منه، وفي ذلك شاغل عن غيره ... وبعدُ فإني علمت بالتجربة أن هذه المحسّنات البديعية التي يتهور فيها المؤلفون، كثيراً ما تشغل القارئ بظاهر اللفظ عن باطن المعنى)) (الساق على الساق، ج1، ص13).
أجل، إن انشغال بال الفارياق بالجمال وهجسه به ليلاً ونهاراً خلع هذا الجمال الفني على ما خطه قلمه، فهو ككاتب، معلم عصره، ونوابغ كتاب زمانه تلاميذه. لقد فكك القيود وحرر الأذهان من عبودية القديم، فهو ربوبيته عن كرسي مجدها. ولكنه وضع لتقديس القديم حداً لا يمتهن الألوهة ولا يجر إلى الوثنية. ولو برهنت عن أثره هذا بسرد نتف من كلامه لملأت بذلك مجلداً وما اكتفيت.
فعد أنت إلى تآليف الشيخ. أحمد الشاعر. قال أحمد: ((وكان الفارياق يتهافت منذ حداثته على النظم من قبل أن يتعلم شيئاً مما يلزم لهذه الصنعة ... مع اعتقاده أن الشعراء أفضل الناس، وأن الشعر أجل ما يتعاطاه الإنسان)) (الساق على الساق، ج1، ص20).
أما نحن فنقول: إن شاعرية الشدياق كانت قوية جداً وقريحته كانت أغزر ما تكون القرائح، ولو شاء أن يحكي شعراً لقدر، ولكنه كان قليل التجديد شاعراً، كثيره ناثراً. بكى الطلول كما بكوا،وقال الغزل الكاذب مثلهم، مع علمه أنهم من ضلال مبين. وما أكثر ما انتقد خطتهم تلك، فالظاهر أن بين فمه وأذنيه أربعة أميال لا أربع أصابع. مدح وهجا ورثى، وقال الشعر في كل غرض ومطلب , ولكنه كان يحاول التجديد دائماً، حتى فكر أن يفكك أغلال القافية، فقال أربعة أبيات مختلفة القوافي، وصرح لنا أنه يقصد التجديد، ثم خمع خلف القدماء.
إننا نعذر الشدياق على مدحه، ففي ((بانت سعاد)) لم يكن كعب أعلى منه كعباً، ولو أتيح لشعراء المناسبات عندنا جزء من مليون مما ناله الشدياق لعذرناهم وصفقنا لهم. ولكنهم، ويا للخجل، كالقرداين يمدحون الناس ويشتهون الرغيف في يد من يضمه ويشمه كبخيل أبي نواس.
شقي أحمد أولاً، ثم فاز أخيراً بهذا الشعر الذي كان خير بضاعة عصره – لا تنسى أني قلت عصره.
– فاسمعه يصف شقاءه، ولاحظ وأنت مار في هذه البيوت الشعرية، ما فيها من تقليد أعمى:
سميري من وجه النهار يراعة وليليَ درس الصحف من كل كاذب
فيا لك من يوم كريه صباحه ويا لك من ليل بطيء الكواكب
كأني في حلق الزمان شجا فلم يزل لافظاً بي أرض من لم يبالي بي
أما في الورى من عادل غير أما فيهم من صاحب غير حاصب
¥