قلت وهذا من الغرابة بمكان قصيَّ، فإنه ينكر عليّ إلزامي له أن يقول ((فَطْحَل)) على الوجه الذي ذكره، يعني على وزن جَعْفَر، مع أني لم ألزمه بهذا الوزن ولا تعرّضت له به، وإنما هو ألزم نفسه به وأورده نقلاً عن الأيّمة وما أظن عربياً ينكره فما باله يتبرأ منه. وليس مرادي كذلك، وإذا ألزمتهُ نفسه أن يقول فَطَحْل بفتح ((الفاء)) و ((الطاء)) وسكون ((الحاء)) حسب مقتضى نصّه وهو هذا بحروفه: ((وقال في الصحاح و الفطحل على وزن هِزَبْر. زمن لم يُخلق فيه الناس بعد. قال الجرميّ: سألت عُبيدة عنه فقال: الأعراب تقول إنه زمن كانت الحجارة فيه رطبة، وأنشد للحجّاج:
وقد أتانا زمن الفِطَحْل و الصخر مبتل ٌ كطين الوحلٍ
و ((فطحل بفتح ((الفاء)) اسم رجل)) انتهى.
فقوله وفَطحل بفتح ((الفاء)) بعد ذكر الفِطَحْل على وزان الهِزَبْر أي بفتح الطاء وسكون الحاء يقتضي بقاء ((الطاء)) على فتحها و ((الحاء)) على سكونها، لأنه ضبط ((الفاء)) على خصوصها ولم يتعرّض لهما ففهُم بقاؤها على ما كانتا عليه بالضرورة. وهذه قرائن كلامه التي أشرت إليها هناك والأمر ظاهر.
ثمّ ما زاد عن أن قال: ((فإنه إذا قال أحدٌ وفَطحل بفتح ((الفاء)) لم يُفهم منه سوى وزان جعفر إذ ليس للرباعي المفتوح ((الفاء)) سوى هذا الوزن)) انتهى.
فقد رأيت هنا أنه أقرّ بنقص عبارته ووكل تكميلها إلى فهم القارئ. وقد ذهب عنه أن من شرط حدود وما يجري مجراها أن تستوفي جميع جهاتها ولو كانت معلومة بحيث ينبغي أن تكون مستقلة بمفهومها مع صرف النظر عن كلّ جهةٍ خارجية إلا ما جرى عليه الاصطلاح فلا مشاحّة. فهل في عبارته شيء من الأمرين؟ ولا ريب أن كل إنسان إنما يطلَب بقدر ما عنده أو قدر ما يُري من نفسه. ومثل الإمام لا يُسامح بهذا ولا سيما أنه قد نصب نفسه نقّاداً على أهل العلم وجعل يأخذ عليهم كلّ مأخذ. فكان ينبغي أن يحرّر عبارته ولا يترك عليه سبيلاً. على أن إنكاره مجيء الرباعي المفتوح ((الفاء)) على غير وزن جعفر وهمٌ ز فقد جاء الكرَفس و الكَرنب وغيرهما على خلاف زعمه. فتأمّل.
قلت وورد في هذه العبارة ما يُؤيد دعواي بأن ((الفحطل)) غلط طبع في المقامات.
فقد وقعت لصاحبنا في أثناء ردّه على الوجه عينه أي بتقديم ((الحاء)) على ((الطاء)).
(أنظر الجوائب، عدد 538، صحيفة 2، عمود 1، سطر 7) وهذا من الغريب الاتفاق.
ومما طال عنده تعجبي و استغرابي قوله بعد كل ذلك (ثمّ إنه بعد أن خلط في فطحل اسم رجل انتقل إلى الاعتراض)) إلى آخره. فلا جَرم إن قوله هذا مما يقضي به بالبراعة و السبق المبين. فإنه أخذ يتخطى ويتمطى ويتلمظ ويتعظعظ ويهيط مرّة ويميط طوراً ويفكر تارة ويقدّر حيناً. ثم أخرج الحكم بإثبات غلطه، وحسبك بإقرار المعترف مغنياً عن البينات. وهو يحسب أنه قد خطأني وأوقعني في حيص بيص و العياذ بالله من كلّ زلة فاضحة. وقد مرّت بك عبارته التي نقلتُها قبيل هذا بحيث يقول: وفَطحل بفتح الفاء اسم رجل. وهي التي جاءت الآن يخطئني بها، مع أن ما خطأته به في ردّي السابق وهي التي جرّت عليه هناك حديث الفاصلة و الانتقاد على سر الليال وكان لها شأن كبير. ومن كان هذا مقدار فهمه فليقُل ما شاء ولا حَرج. وليته توهم في سائر أغلاطه ما توهّمه هنا فكفاني وإياه هذا النزاع الكريه.
ثم خطأني في اعتراضي على قوله الوجه القبيح المبرقع. قال: ((فإن القبيح قد يكون مبرقعاً كما أن المبرقع قد يكون قبيحاً فلا تضاد بين هاتين الحالتين فمن أين جاء الالتواء.
وقد قال أبو الطيب:
قبحاً لوجهك يا زمان فإنه وجهٌ له من كل قبحٍ برقعُ
فما الفرق بين الكلامين)). انتهى.
قلت: أمّا قوله إن القبيح قد يكون مبرقعاً و المبرقع قد يكون قبيحاً فلا تضاد بين هاتين الحالتين، فهو تمويه لا طائل تحته. لأنني لم أدخل في مبحث الإمكان و الامتناع ولا كان اعتراض من هذه الحيثية. ولكن ما زال هذا دأبه، أصلحه الله، فإن كلامي كان موجّهاً هناك إلى فساد المعنى الذي قصده في نفسه لا في استحالة الجمع بين الوجه و البرقع. وذلك أنه في مقدمة سر الليال لما انتهى إلى الكلام عن لغات الأعاجم أخذ يصفهنّ بكل نوع ٍ من أنواع القباحة وشَّبههن بالوجه القبيح المبرقع إرادة أنهنَّ قد بلغن من القبح كلَّ
¥