غاية. فإن كان من لوازم البرقع أن يكون قبح المبرقع به صحَّ كلامه واستقام لأن ذلك يفيد المعنى زيادة في المبالغة فيكون قد حصل المقصود. وإلا لزم أن تبقى قباحة الوجه مستورة فلم يبدُ للعين إلا البرقع وضاع التشبيه جزافاً.
وأما قول الطيب المتنبي الذي أشار إليه وأيّد به كلامه فقد أخطأ منه الغرض، لأن المتنبي أراد أن يكون القبح هو عين البرقع على سبيل المبالغة. وهذا هو المعروف عند البديعيين بالتجريد وإلا فما معنى من الداخلة على كل. وهذا هو الفرق بين الكلامين، فتأمل بعين ٍ بصيرة.
ثم ما لبث أن أنكر عليّ اعتراضي على خلله في أحكام الفاصلة، فزعم أن إنكاري ذلك من غير دليل بشيء، وأنه كما يصح أن يقال مثلاً عظم جدّه وطال جهده كذلك يصح أن يقال جادّة و جاهدة. اهـ.
قلتُ: إنني لم أورد على ذلك دليلاً لضيق المقام و لظني أن مثل هذا لا يغرب عن علمه الدقيق فكنت أعدّه من غلط السهو. أما الدليل فإنه لا بدّ في القوافل المؤسّسة من موافقة بعضها لبعض في التأسيس و الإشباع مُطلقاً فحينما وقع التأسيس وقع القيد هناك من جهة الإشباع أيضاً وهذا النوع هو من أدقّ أنواع القوافي. أما التأسيس فهو ألف يقع بينها وبين الروي حرفٌ واحد يسمّى بالدخل كألف جاهدة. والإشباع هو حركة الدخيل ككسرة الهاء من جاهدة. وهذه الحركة قد استقصوا فيها حتى أنكر أكثرهم الجمع بين الضمّة و الكسرة كما في قول الشاعر:
وكنا كغصنيّ بانةٍ ليس واحدٌ يزول على الحالات عن رأي واحد
تبدلَّ بي خلاّ فخاللتُ غيرهُ وخلّيته لما أراد تباعُدي
وأما الجمع بين إحداهما و الفتحة فهو منكرٌ بالإجماع وهو عيبٌ في القافية يعرف بسناد الإشباع كقوله:
يا مَن لهُ النِعم التي بالشكر ليس تُقابَلُ
لم يُعرِضوا جهلاً بها لكنّ ذاك تجاهُلُ
وقول الآخر:
يا نخلُ ذات السرو و الجداول تطاوَلي ما شئتِ أن تطاوَلي
ومنشأ هذا السناد إنما هو اختلاف هيئة اللفظ بين قافية وأخرى وقباحته مرتبة على مراتب هذا الاختلاف فكلما بعُد كان مكروهاً ولذلك كان الجمع بين الضمّة و الكسرة أيسر منه بين إحداهما و الفتحة. وأنت ترى أن ما بعد ألف التأسيس من قوله جاهِدة وهو الهاء مكسور وما بعد ألف التأسيس من قول جادّة وهو الدال المُدغمة ساكن. فإذا كان الجمع بين حركةٍ وأختها قبيحاً مرفوضاً كما علمتَ و الحرف مع كلتيهما إنما يكون متحركاً فلا يكون الفرق إلا من حيثيّة هيئَة الحركة فقط. فما القول فيما إذا وجدت الحركة مرّة وفُقِدت مرّة من أصلها. لا جرَم أنه من أقبح العيوب.
وقد ذكرتُ هناك أن للقاعدة حكم القافية فهي تجري مجراها. قال الإمام السكاكيّ: السجع في النثر كالقافية في الشعر. وبسط الإمام التفتازانيّ في كتابه المطوّل على التخليص قال: وإنما أراد السكاكيّ بالأسجاع حيث قال إنما هي في النثر كالقوافي في الشعر الألفاظ المتواطأ عليها في أواخر الفِقر وهي التي يقال لها فواصل. وقال في هذا الباب: ((والأسجاع مبنية على سكون الإعجاز)). أي أواخر فواصل القرائن لأن الغرض من السجع أن يزاوج بينا الفواصل. ولا يتمّ ذلك في كل صورة إلا بالوقف و البناء على السكون كقولهم: ((ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت)).فإنه اعتبر الحركة لفات السجع لأن التاء من فاتَ مفتوحة ومن آت مكسورة منوّنة. وهذا غير جائز في القوافي ولا وافٍ بالغرض أعني تزاوج الفواصل. إلى أن يقول: ((ومنه)) أي من اللفظي، ((الموازنة وهي تساوي الفاصلتين)) أي الكلمتين الأخيرتين من الفقرتين أو من المصراعين ((في الوزن دون التقفيه نحو ونمارق مصفوفة وزرابّي مبثوثة)) فلفظاً مصفوفة ومبثوثة متساويان في اللفظ لا في التقفيه، لأن الأولى على الفاء و الثانية على الثاء إذ لا عبرة بتاء التأنيث على ما بُيّن في علم القوافي. إلى آخر ما قال على هذا النمط. فأنت ترى أنه في كل هذا قد قرن بين أحكام الفواصل وأحكام القوافل وراعى هنا ما يُراعَى هناك ولاءم بين الجانبين ملاءمة تامة وقاس بين الواحد والآخر، وبالجملة لم يعتبر الفاصلة إلا قافية. وعليه جرى جميع الأئمة بلا خلاف. على أنك إذا تفرست في السجع لم تجده إلا مفرّعاً عن الشعر بأن تركوا منه الوزن وأبقوا التقفيه فأصبح السجع شعراً غير موزون، و الدليل على هذا التفريع أن الشعر شائع مستفيض بين
¥