تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الأعاجم كما هو عند العرب ولا وجود للسجع عندهم فما ظنك به.

قال صاحبنا في مقدّمة سر الليال صفحة 3: ((وللعربية مزايا أُخرى فاقت بها غيرها فضلاً وقدراً وشأناً وفخراً، منها السجع وما أدراك ما السجع كلم متناسقة يعلقها الطبع ويعشقها السمع)). إلى أن يقول: ((فتلك هي المعجزة التي لا يمكن لأحد من الأعاجم أن يتحداها، أو يقارب حدّ ذراها، وهي الراح التي تُسكر كل ذي ذوق سليم، من دون تأثيم. فمن أين لسائر اللغات مثل ما للغة العرب، وأيّها يجاريها في حلبة الأدب. وقد فاتها هذا الأسلوب الأشرف،و النوع الألطف)). إلى آخر ما قال.

فإذا ثبت ما تقدم الكلام عليه أفلا تكون الفاصلة هي عين القافية وحكمها حكمها؟ ولقائل هنا أن يعترض بأن نحو المادة لا يصح أن يقع قافية فكيف يصح وقوعه فاصلة وهما في حكم واحد؟ فأقول: إن امتناع وقوعها قافية إنما هو وارد من قبيل أحكام العروض لا من قبيل أحكام القافية، لأن الشعر مقيّد بوزن هي لا تنطبق عليه لاجتماع ساكنين فيها ليس آخرهما آخرها وليس في النثر شيء من ذلك. فتأمل. والأغرب من كل ذلك قوله: ((إنه كما يصح أن يقال عظم جده وطال جهده، كذلك يصح أن يقال جادة وجاهدة. فما أبعد هذا المقاس! وكأنه اعتبر الاشتقاق بين الجدّ و الجادّة و الجهد و الجاهدة فظنَّ أن هذا من ذاك. وليس بشيء لأن المسألة من قبيل علم القافية ولسنا في شيء من أمر الصرف. ولعله ذهب وهمه إلى ذلك لكثرة اشتغاله بتفريع الألفاظ واشتقاقاتها. وكيفما انقلب الحال فالمسألة غريبة. لأنه ما هي المناسبة بين الجانبين، وأين التأسيس والإشباع في جدهُ وجهدهُ، وهل فيهما شيء من كل ما ذكرناه؟ وأغرب منه أنه أجاز وقوع جدّهُ وجهده فاصلتين مع أنه لم يجز وقوع الفَطَحْل مع المطل كما مر بك. وأغرب من الجميع أنه جعل كل واحد من حكم الامتناع هناك و الجواز هنا حجّة في موضعه. فتأمل في كل ذلك وتعجّب.

وأما قوله: ((فمن أين علم أني مقيّد بالسجع في جميع هذه الفِقَر)) فما أدري مراده بهذا الإنكار أنه لم يقصد السجع في شيء منها أصلاً أم سجّع بعضها دون بعض فوقع اعتراضي على غير المسجّع؟ وكيف كان الحال فلا بدّ لي من أن أثقّل على القارئ بإيراد جانب كبير من الصفحة التي أخذت منها تلك الفقَرات يكفي للدلالة على وجود السجع هناك في جميع الفِقَر بأسرها. وهذا نصّه على ما أَشرت:

فما زال المتأخرون يستدركون فيها على المتقدّمين، والراوون عنها يقولون بالحَدس و التخمين. ويجملون في وصفها ويفصلون بما لا يعلمون. حتى كسوها ثوباً غير ما لاق بها، وكادوا يحلئون الظامي إلى مشربها. ولو أنهم قصروا عليها اشتياقهم، ولم يخلبهم من غيرها ما شاقهم وتذللوا لها حرصاً على معرفة مكنونها، وتاقوا إليها كلفاً بإدراك شؤونها، لأطلعتهم على ما عناني إطلاعه، فحبذا الحظّ ونعم الحِظَة. لكنهم عدلوا عن هذه الجادّة، إلى جادّة أُخرى جاهدة، ستراً لقصورهم، وتكفراً عن عثارهم بعثورهم. فتراهم مثلاً يقولون إنَّ باع الشيء يأتي بمعنى باعه، وبمعنى اشتراه. ولم يبينوا لنا سبب هذا ولا أصل معنى البيع ولا مغزاه. ومن دون معرفة السبب، وإدراك الأرب، لا يلذ للإنسان أن يعرف أن لفظة واحدة تأتي لمعنيين متضادين، ومغزيين متباينين. إذ ظاهر ذلك من دون تعليل، مخالف للحكمة التي بُنيَ عليها هذا اللسان الأصيل. فلهذا كان أقصى همّي، وأوفى حظي وغنمي، أن أغوص في بحر هذه اللغة الزاخر، على دراري أسباب هذه الألفاظ المتضادة في الظاهر. فأدنيتها للعيان، ووشحتُها بالبرهان. فظهرت أسارير حسنها، وتباشير فنها، وحكمة وضعها، وبهجة مطلعها.

((ثمّ معما ذكرت من الشغف الذي شفّني حباً بهذه اللغة الباهرة، التي هي وسيلة لجميع علوم الدنيا والآخرة. فإن الحق و الإنصاف قضيا عليّ بأن أنظر فيما يعترض عليه من أساليبها، ولا أقول إنه من عيوبها. ولكن باعتبار اللغات الأخرى، يظهر في بادئ الرأي أنه لم يكن من النوع الأحرى، فمن ذلك الجمع المكسر، فإنه فيها أكثر من أن يُحصر. وربما كان للاسم الواحد عدّة جموع كالناقة و العبد، مما يقضي بالعناء و الجهد. وربما جُهل جمع لفظٍ غريب المبنى أو كان لتعريبه قد شذّ وزناً كجمع البك والأفندي وموسيو وسنيور، وغير ذلك مما صار

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير