تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فيه اصطدام الأقلام و كثرتها. وآية الاستظهار بيننا إنما هي نصوص الأئمة رحمهم الله، و البراهين العلمية فمن ظفر منا بشيء من ذلك فنعمّا وإلا فما يغني عنه إلا السكوت، فما الموجب لهذا القول الذميم؟

ومن غريب ما جاء في كلامه زعمه أنني خطّأته لأنه رثى أبي رحمه الله. أو كما عبّر ندّدت به. وهو يحسب التخطئة تنديداً وفيه اعتبارٌ ما. فلا ريب أن هذه كانت أولى حُظيّاته مما أشرت إليه كأنه يريد أن يحمل عليّ أولي الفضل بأنني أتيت مثل ذلك في وجه من بادأني بالجميل. غير أن ذلك قد فاته بظهور كلام الفريقين، ومن وقف على القالين علم الحقيقة وأنصف بيننا وأغناني عن الاعتذار. بل الأولى أن يقال إنه لم يتلقّني بما تلقّاني به هذه المرّة إلا مكافأة لي على احترامي له وحفظي كرامة شيخوخته وعهد صداقته مع أبي رحمه الله، كما تلقّى أبي بالانتقاد عليه بعد وفاته مكافأةً له على ما تكلفه من مدحه. وبالجملة أرى له أن لا يفتح على نفسه هذا الباب أي باب الحقوق الأدبية لأنه قلما يُحمَد فيه.

وأما زعمه أني أدّعي العصمة لأبي رحمه الله، فذلك ما لم تسبق إليه مني إشارة وأستغفر الله من هذه الدعوى لبشر ٍ، فإن الإنسان ما زال موضع الخطأ و التفريط. بل إذا وصفته بأنه قابلٌ الغلط كنت كأنك وصفته بأنه قابل العلم مثلاً، لأن كلا الأمرين من لوازم الإنسانية. غير أني أقول إنه مع ذلك قد تعبث به الخيلاءُ حجاب الكبر فيتوهم في نفسه العصمة جهلاً وسفهاً، ثمّ لا يفتر أن يأخذ على الناس سقطاتهم ويترقب هفواتهم. فَمَثله مَثل الأعمى يعيّر الأعمى بأنه لا يبصِر، وربّما عيّر البصير بذلك أيضاً لاستواء الكل في عينيه حرسهما الله. ومن كان كذلك وجب تنبيهه إلى معرفة نفسه وإظهار عجزه عن إدراك غلطه فضلاً عن غلط الآخرين، لكي يعلم أنه من الضعف فوق ما يرى في نفسه من القوّة وإن في غيره بقيّة من فضل الله و الله لا يذخر فضله عن أحد.

ومن غريب هذيانه في هذا الردّ زعمه أنه يريد أن يحامي عن حقوق العربيّة. وإنه لا يخشى في حبّها لومة لائم، إلى غير ذلك من الأقوال المضحكة. فأما محاماته عن حقوق العربية فما أدري مَن الذي سلمه مقاليدها وأقامه زعيماً على أهلها حتى يدّعي لنفسه مثل هذه الدعوى؟ وكأني به قد نسي أنه دخيلٌ فيها متطفلٌ على موائد أربابها. بل لعلهم رأوا فيه من العلم و الفضل ما لم يروا في غيره من علماء العصر ففوّضوا إليه أمرها.والله الأمر ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

وأما زعمه أنه من محبّي العربيّة، فقاتل الله هذا الحبّ الذي جلب عليها تعفير وجهها وتشويه حسنها وهتك أستارها. وما كان أبّره بها لو أنه لها عدوٌ خصيم. ولله قول أبي الطيّب:

ومن العداوة ما ينالك نفعهُ ومن الصداقة ما يضرّ ويؤلم

وكأني بما ذهب إليه في سرّ الليال من أن معنى أحبهُ أصاب حبّة قلبه، قد صدق هنا فإنه كذلك أحب هذه اللغة. أجارها الله من كلّ محبٍ مثله. وما أحسن ما قاله الآخر:

أحبابه لِمَ تفعلون بقلبه ما ليس تفعله به أعداؤهُ

والظاهر أنه يذهب في الحبّ إلى ما ذهب إليه ديك الجنّ الحمصي ولا شريك له سواه. قيل إنه كان عنده جارية وغلام يهواهما وكان شديد الكلف بها. فسوّلت له الغيرة، أو شيءٌ آخر يشتق من اسمه، أنه ربما مات قبلهما فاستأثر بهما غيره من بعده. فعمد إليهما ليلةً فقتلهما ثمَّ أحرقهما فجعل من رماد كلّ واحدٍ منهما باطية ً للخمر.فكان بعد ذلك إذا اشتاق إلى الجارية قبّل الباطية المصوغة من رمادها وملأ منها كأسأً ثمَّ بكى وأنشد:

يا طلعةً طلع الحِمامُ عليها وَجنى لها ثمر الردى بيدَيها

روّيتُ من دمها التراب وطالما روّى الهوى شفّتي من شفتيها

وأجلتُ سيفي في مجال خناقها ومدامعي تجري على خدّيها

فوحقُ نعليها وما وطئ الثرى شيء أعز عليَّ من نعليها

ما كان قتلِيها لأني لم أكن أبكي إذا سقط البعوض عليها

لكن بخلتُ على سواي بحسنها وأنفت من نظر العيون إليها

وإذا اشتاق إلى الغلام فعل كذلك بباطيته وأنشد:

أشفقتُ أن يَرِدَ الزمان بغدره أو أُبتلى بعد الوصال بهجره

قمرٌ أنا استخرجته من دجنه لبليتي وأثرته من خدره

فقتلته وله عليّ كرامةٌ فليَ الحشى وله الفؤاد بأسره

عهدي به ميتاً كأحسن نائم ٍ و الطرف يسفح دمعتي في نحره

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير