ففي قوله ((إرجاء إفشال)) نظر والأظهر أنه يريد بالإفشال أن يكون مصدراً من معنى الفشل، وبالإرجاء التأخير. إلا أن ((أَفشَل)) الرباعي لا يأتي بمعنى الثلاثي. وقوله:
وأكثر من هذا إبادتهم الوغى وذلك من بعد اقتحام وقيتال ِ
ولا يخفى ما في قوله ((قيتال))، من الكراهة و الغرابة وإن أجازه القياس. وقوله:
وقد حصلا في كفّ جرمانيا معاً كمثل لجام ٍ للفرنسيس تلاّل ِ
الأظهر هنا أنه يربد بقوله ((تلاّل))، أن يكون فعّالاً من قولهم: أتلّ الدابّة. إذا ارتبطها وقادها. جعله صفةً للّجام وفيه نظر. على أن في صيغته خطأ فاحشاً لأن فعله رباعي لا ثلاثي كما تستعمله العامة فيقال أتلَّ الدابّة كما تقدّم ولا يقال تلّها. وصيغة فعّال لا تبنَى من أفعَل الرباعيّ إلا في ألفاظ شاذّة تسمَع ولا يقاس عليها، على إنها في غاية الندور. قال الشيخ أبو زكرياء التبريزيّ في شرح ديوان الحماسة لأبي تمام الطائي رحمهما الله: ليس في الكلام أَفعَل فهو فعّال إلا أحرف يسيرة وهي أسأر فهو سأار وأدرك فهو درّاك وأجبر فلاناً على كذا فهو جبّار، وأقصر عن الشيء فهو قصّار. اهـ.
وقوله:
فإن جيوش الإمبراطور أعتقت من الأسر بعد الصلح من دون إقلال ِ
فقوله: ((من دون إقلال)) لا معنىً له في هذا الموضع ولكن ساقته القافية.
وقوله:
ومن عوز القوت الذي سدَّ بابه عليهم معادوهم ولا سدّ إدحال ِ
((الإدحال)) جمع دحل. قال صاحب القاموس: وهو نقبٌ ضيّق فمه متّسع أسفله حتى يُمشى فيه. أو مدخلٌ تحت الجُرف أو في عرض خشب البئر في أسفلها أو خرقٌ في بيوت العرب يُجعل لتدله المرأة إذا دخل داخلٌ. و المصنع يجمع الماء.ا هـ. وفي ذلك ما يُوصَف بالضيق وليس في الكل ما يوصف بالسدّ فتأمّل.
وقوله:
إذا كان فعل المرء شاهد عقله فمن هذه الأفعال إشهاد إخبال ِ
وأفوّض إليك النظر في قوله (إشهاد إخبال)) لعله يُخرّج على وجهٍ سديد. وقوله:
وقام بأمر الجمهورية ناهضاً تيار ومعه أهلُ شُورى وأنقال
تقطيعه:
وَقَامَ بِأَمْرِلْجَمْ هُوْرِيْيَ تِناهِضَنْ
فَعُوْلُ مَفَعِيْلُنْ مَفْعُوْلُ. مَفَاعِلُنْ
تِيَارُ وَمَعْهْوْأَهْ لُشُوْرَا وَأَنْقَالِي
فَعُوْلُ مَفَاعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاعِيْلُنْ
فوزن المصراع الأول لم يحكه الخليل ولا روته علماء العَروض.
و الظاهر أنه لاحقٌ بأمثاله من مخترعات أخفش هذا العصر.
على أن في سائر القصيدة من الركاكة و التعقيد وعدم الانسجام مع استعمال كثير ٍ من الألفاظ الحوشية النافرة، إلى غير ذلك ما لا يخفى على الشعراء و العلماء فاقتصرتُ هنا على ما ذكرته منها خوف الإطالة. هذا وإني في كل ذلك لم أتعرّض لعبارة الجوائب على ما فيها من الخلل الفاضح لاحتمال أن يتعذر فيها بالعَجلة، وإن كان هذا العذر لا يليق بمثل الإمام.
على أنه اعتذر به في سرّ الليال فما ظنك به في الجوائب. وأمّا هذه القصيدة فلما كانت ما اقتضى سهراً طويلاً وكدّاً عنيفاً وترسّلاً ملياً. وقد استدرك ما فاته من إصلاحها في العدد 559 من الجوائب لم يبق فيها احتمالٌ للاعتذار بشيء من ذلك.
وهنا لا بدّ أن أقول إن هذه المناقشة كلها لم تكن مني عن رغبةٍ ورضىً ولا أنا ممّن يتهافتون إلى التخطئة و الانتقاد لغرض ٍ ما. وكان بودّي استئصال هذا العِرق من بيننا لو وافقني عليه و المحافظة على عهده مع أبي رحمه الله وكرامته فوق ذلك بالنظر إلى سنّه فضلاً عن عدم التعرّض له بما يكرهه. ولكن قُدَّر فكان، و الفضل للمتقدم.
وهنا يحسن ذكر ما وقع من الاتفاقات الغريبة في هذا الصدد، وذلك إني بينما كنت يوماً مع صاحب لي ممن ينتسبون إلى المولى وقد أخذنا في الحديث، جرى بيننا ذكر الصحائف و الجرائد فسألني أن أكتب شيئاً في تخطئة عبارة ((الجنان)) وأبعث به إلى الجوائب ليُنشر فيها. فقلتُ: ليس ذلك من دأبي ولا غرض فيه، و الحازم من اشتغل بالنظر في عيوبه عن عيوب غيره فإن وثق بعصمته فليفعل ما شاء.
فلما يئس مني قال: فعبارة أدبيّة أو سياسية أو شيئاً آخر يؤثره عني. قلتُ: أنا دون أن أفعل، مع اعتدادي أن مثل ذلك إنما يكون ضرباً من التطاول على شي كبير يعدّونه من العلماء المتبحرين فإني أهاب أن أتحرَّش به. فأخذ يَصِف لي من مودّته وحبه لأبي رحمه الله وخلوص صداقته ما لم أنكره وقتئذٍ، وألحّ عليّ بمطارحته وتجديد ذلك العهد معه حتى أن أكتب إليه رسالة حبيّة وأشفعها بلغز من نظمي يكون به الإفصاح عن نوايا الودّ و المصافاة. فلم يمض ِ على هذا الحديث ثلثة أيام حتى وردت الجوائب وفيها الانتقاد على أبي رحمه الله، فكانت فاتحة المكاتبة بيننا. بيّض الله وجهه.
[في فائدة المباحث و المطارحات]
وشهد الله إني ما كنتُ لأكره الخوض في هذه المطارحات و المباحث الدقيقة فإنها لا تخلو من فائدة لي أو له لو أنه حافظ على شأني وشأنه ولم يتجاوز إلى أمر الهجاء، فإني شديد الكراهة له. ولقد طال اعتباري عند قوله في رثاء أبي رحمه الله.
ما كان يهجو ولا يُهجَى ولا حجبت ذُكا قريحته احلاك حدثان ِ
وقوله أيضاً فيه:
فلم يُضِع ساعة من عمره عَبثاً ولم يَضَع قوله في غير إحسان
فأمّا الآن وقد عدل إلى ما عدل إليه، وقد بيّنت للواقف على هذه المناقشة مبلغ ما عندهُ من العلم فلا يلزمني بعدها مساجلته ومناظرته و التعرض لسهام قذفه، لأن آدابي ليست كآدابه وأطواري ليست كأطواره، ولا أرى له بعدها حقاً في الدخول إلى مجلس المساجلين، ولا رأي لي في مواطأته على ما ذهب إليه. ومعاذ الله فذلك من قِبَلي باب مُحكم التوصيد.
ليس الوقيعة من شأني فإن عَرَضت أَعرضتُ عنها بوجهٍ بالحياء نَدِي
إني أَضنّ بعرضي أن يُلِمَّ بهِ غيري فهل أتولى خرقه بيدي
انتهى
ابراهيم اليازجي
¥