جتماع الأئمة الأربعة فيها, وإنما كان يصليها الشافعي والحنفي, وكان سيدي الوالد - رحمه الله تعالى - ينكر ذلك غاية الإنكار وأجاب لما سئل عن ذلك في سنة اثنين وثلاثين وتسعمائة بما صورته: أما اجتماع إمامين بجماعتين في صلاة واحدة في وقت واحد في مسجد واحد فهذا لا يجوز, وقد نقل الإجماع على عدم جواز ذلك الشيخ أبو القاسم بن الحباب والشيخ أبو إبراهيم الغساني والقاضي جمال الدين بن ظهيرة الشافعي في جواب سؤال سأله عنه الشيخ موسى المناوي, وقال إن ذلك من البدع الفظيعة والأمور الشنيعة التي لم يزل العلماء ينكرونها في الحديث والقديم ويردونها على مخترعها القادم منهم والمقيم ونقل عن ابن عرفة أنه لما حج في سنة اثنين وتسعين وسبعمائة ورأى اجتماع الأئمة في صلاة المغرب أنكر ذلك, وقال إن ذلك لا يجوز بإجماع المسلمين لا أعلم بينهم في ذلك اختلافا قال القاضي جمال الدين بن ظهيرة, وهذا صحيح لا شك فيه, وبشاعة ذلك وشناعته ظاهرة لمن ألهم رشده ولم تمل به عصبية ودلائل ذلك من السنة الشريفة النبوية أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر, ولقد يحصل من ذلك من الضرر على المصلين في الموسم ما لا مزيد عليه وتبطل صلاة كثير منهم بسبب ذلك ويجب على ولي الأمر إزالة هذه البدعة القبيحة الشنيعة وعلى كل من بسطت يده, ويثاب ولي الأمر سدده الله ووفقه على إزالة هذا المنكر وينال به عند الله الدرجات العلية ويؤجر, وكل من قام في ذلك فله الأجر الوافر ولا يجوز لمن علم هذه البدعة السكوت عليها, بل ولا على أقل منها لقوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" ومن امتنع من طاعة ولي الأمر في ذلك فهو عاص لله ولرسوله وذلك جرحة في شهادته وقادح في إمامته فلما أجاب سيدي الوالد - رحمه الله تعالى - بهذا الجواب في سنة اثنين وثلاثين وتسعمائة اجتمع القضاة الأربعة ونائب جدة وملك النجار وأئمة في الحطيم واتفق أمرهم على أن الحنفي يشرع في الصلاة قبل الشافعي وإذا قام الحنفي لركعته الثالثة من صلاة المغرب شرع الشافعية في إقامة الصلاة والإحرام, ويطيل الشافعي القراءة حتى لا يركع في الأول إلا بعد سلام الحنفي واستمر الأمر على ذلك سنة خمس وأربعين وتسعمائة فيما أظن أو سنة ست, ثم أمر بعض نواب جدة أئمة الشافعية ألا يقيموا الصلاة ولا يشرعوا في الإقامة حتى يسلم الحنفي من صلاة المغرب, ولم يمكن مخالفته فخفت البدعة بسبب ذلك ولله الحمد على ذلك واستمر على ذلك إلى وقتنا هذا في سنة خمسين وتسعمائة.
تنبيه: قال ابن ناجي في شرح المدونة: وجمعهم في المسجد الحرام لأربع جهات كل جهة بإمام واضح ; لأنها صارت كل جهة كأنها مسجد لاختصاص إمام بها, ومسجد المدينة لا يصلي فيه إلا إمام واحد, وما ذكره شيخنا - حفظه الله - يعني البرزلي غير هذا فقد وهم فظاهر الكتاب المنع, ولو أذن الإمام, وهو الذي شاهدت شيخنا يفتي به انتهى.
قلت: والعجب منه - رحمه الله تعالى - حيث يقول هذا الكلام ومالك - رحمه الله تعالى - يقول في المدونة: من وجد مسجدا قد جمع أهله, فإن طمع في إدراك جماعة في مسجد خرج, فإن كانوا جماعة فلا بأس أن يخرجوا من المسجد فيجمعوا إلا أن يكون المسجد الحرام أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو مسجد بيت المقدس فليصلوا فيه أفذاذا انتهى. ولم يقل مالك - رحمه الله تعالى-: إنهم يتحولون إلى غير جهة الإمام ويصلون جماعة, ولا يقال: إن جمعهم الآن بإذن الإمام وتقريره فيجوز ; لأنه على تقدير تسليم إذ الإمام في ذلك لا يفيد كما تقدم أن إذن الإمام في المكروه أو الحرام لا يبيحه, والله تعالى أعلم وهو الموفق.
فروع: الأول: لو صلى جماعتان بإمامين في مسجد واحد أساءوا وصحت صلاتهم قاله في التوضيح في فصل الاستخلاف, والله أعلم.
الثاني: قال في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة وسئل عن القوم يكونون في السفينة فينزل بعضهم ويبقى بعضهم فيقيم الذين بقوا في السفينة الصلاة فيصلون, ثم يجيء الذين كانوا نزلوا يجمعون تلك الصلاة في السفينة فقال برأسه لا, فروجع فيها فقال: إنما مثال الجمع فيها مرتين, ثم قال برأسه لا, قال القاضي, وهذا أبين ; لأن الجماعة إذا كانت بموضع فلا يجوز لها أن تفترق في طائفتين فتصلي كل جماعة منها بإمام على حدة لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة: من الآية107) ألا ترى أن الله تعالى لم يبح ذلك للغزاة مع شدة الخوف وشرع لهم أن يجمعوا على إمام واحد, وكذلك أهل السفينة لا يجوز لهم أن يفترقوا على طائفتين في الصلاة فلما كان ذلك لا يجوز لهم كره للذين نزلوا إذا جاءوا أن يجمعوا الصلاة لأنفسهم إذا كان الذين بقوا قد جمعوا تلك الصلاة لئلا يكون ذلك ذريعة إلى ما لا يجوز من تفرق الجماعة لا سيما إن كان الذين بقوا إنما جمع بهم إمام راتب لهم وأجاز في المدونة أن يصلي الذين فوق سقف السفينة بإمام والذين تحته بإمام ; لأنهما موضعان فليس بخلاف لهذه الرواية والله أعلم انتهى بلفظه.
الثالث: قال البرزلي في مسائل الصلاة في سؤال قصر المسير وجواب أبي محمد لأهله فمن جملة ذلك: وأما الذين يصلون في وقت واحد بإمامين ويتبع كل إمام طائفة وهما متقاربان فيشكل على كل طائفة هل يتبعون إمامهم أو غيره فيما يسمعون من التكبير وغيره فهذا لا يجوز وصلاة من صلى ممن صار في شك هل اتبع إمامه أو غيره فاسدة, ولو أيقن أنه اتبع إمامه إلا أنه في شغل عن مراعاة ذلك قد شغله التكلف فيه فهذا لا ينبغي, ولكل إمام أن يتحرج من هذا إن تعين بفعله في فساده لصلاة الناس ولكن يقدم أحدهما فيصلي قبل الآخر, ثم يصلي الآخر إن كان في الوقت سعة وإن كان في الوقت ضيق مثل
صلاة المغرب, وكان يشكل عليهم ذلك فلا ينبغي ذلك ولينضموا إلى إمام واحد وينحاشوا إلى المسجد الكبير القديم ولا تدخل نفسك فيما تشك انتهى, وهذا في غير المسجد الذي له إمام راتب, والله أعلم.))
¥