تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فلما سمعت ذلك القول من النبي خفت من ركوب البحر وقلت في نفسي إن الحكماء لا يركبون البحار فكيف أركب البحر ثم قلت في نفسي أيضا من غير توقف يا سبحان الله أنا قد آمنت بهذا النبي وبايعته أفيأمرني بأمر ولا أتابعه فإذا أي مبايعة تكون مبايعتي له وعزمت على السمع والطاعة ثم وقع لي خاطر آخر وقلت إذا كان معنا رسول الله وأصحابه فإن البر والبحر يكونان مسخرين لنا ولا خوف علينا من سائر الأخطار وطاب قلبي بذلك وحسن يقيني وقبولي وأنا أذكر أن هذه الأفكار والخواطر ظهرت لي وأنا بين يدي النبي في غير زمان أعنى من غير توقف يستبطئني به عن إجابته فما كان بأسرع من ان قلت له سمعا وطاعة يا رسول الله فقال على خيرة الله تعالى فقمت بين يديه وخرجت فما وجدت في الدهليز الظلمة التي كانت فيه عند الدخول فلما خرجت من الدار ومشيت قليلا وجدت كأني في سوق مراغة فيما بين الصيارف وبين المدرسة القضوية وكأني أرى ثلاثة نفر عليهم زي المتصوفة وثياب الزهاد

ومنهم من على بدنه صدرة صوف خشن أسود وعلى رأسه مئزر من جنسها وبيده قوس ملفوفة في لباد خلق وبيده الأخرى حربة نصابها من سعف النخل والآخر متقلد سيفا غمده من خوص النخل لأنه كان قد انطبع في خيالي منذ كنت صغيرا حين قرأت أخبار ظهور دولة الإسلام كيف كان أصحاب النبي ضعفاء فقراء وليس لهم من الآلات إلا شبيها بما ذكرنا وأنهم كانوا مع ذلك ينصرون على الجيوش الكثيفة والخيول العديدة ذوى الشوكة القوية فلما رأيت النفر الثلاثة قلت هؤلاء هم المجاهدون والغزاة هؤلاء أصحاب النبي مع هؤلاء أسافر وأغزو وكانت الدمعة تبدر من عيني في النوم لفرط سروري بهم وغبطني إياهم ثم استيقظت والصبح لم يسفر بعد فأسبغت الوضوء وصليت الفجر وأنا شديد الحرص على إشهار كلمة الحق وإعلان الانتقال إلى دين الإسلام وكنت حينئذ بمراغة من آذربيجان في ضيافة الصاحب الأمجد فخر الدين عبد العزيز بن محمود بن سعد بن علي بن حميد المضرى رحمة الله عليه

وكان قد ابتلى بمرض قد عافاه الله منه ولى به أنس متقدم فدخلت إليه في أوائل نهار الجمعة المذكور يومئذ وعرفته أن الله قد رفع الحجاب عني وهداني فما أعظم استبشاره يومئذ بذلك وقال الله إن هذا الأمر مازلت أتمناه وأترجاه وطالما قد حاورت قاضي القضاة صدر الدين في ذلك وكنا جميعا نتأسف على علومك وفضائلك أن لا تكون إسلامية فالحمد لله على ما ألهمك به من صلاح وهداية وعلى استجابته دعاءنا في ذلك فقل لي كيف فتح الله ذلك عليك وسهله بعد إرتاجه وامتناعه فقلت ذلك أمر أوقعه الله في نفسي بالإلهام والفكر ودليله العقلي وبرهانه قد كنت قديما أعرفه ودليله في التوراه إلا أني كنت أراقب أبي وأكره أن أفجعه بنفسي تذمما من الله تعالى والآن قد زالت عني هذه الشبهة مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقام الصاحب لفرط سروره قائما واهتز فرحا وكان قبل ذلك لا يقوم إلا بالتكلف وغاب عني واستجلسني إلى عودته وأفاض علي من الملابس أجلها وحملني من المراكب على أنبلها وأمر خواصه بالسعي إلى الجامع بين يدي وكان الصاحب قد تقدم إلى الخطيب وأمره بالتأخير والتوقف إلى وقت حضوري في المسجد لأن الوقت ضاق إلى أن فرغ الخياطون من خياطة الجبة التي أمر الصاحب بتفصيلها فسرت إلى الجامع والجماعة في انتظاري وارتفع التكبير من جماعة أهل المسجد حيف أشرفت عليهم وارتج المسجد الجامع من صلاتهم على رسول الله ثم رقى الخطيب المنبر ووعظ الناس القاضي صدر الدين ملك الوعاظ أبو بكر محمد بن عبد الله ابن عبد الرحيم بن لل وأطنب في مدحي وإحماد ما أيدني الله به من التيقظ والهداية وبالغ في ذلك مبالغة تجاوز حد الوصف وكان أكثر المجلس متعلقا بي وفي عشية ذلك اليوم أعني عيد النحر ابتدأت بتحرير الحجج المفحمة لليهود وألفتها في كتاب وسميته بإفحام اليهود واشتهر ذلك الكتاب وطار خبره وانتسخ مني في عدة بقاع نسخ كثيرة بالموصل وأعمالها وديار بكر والعراق وبلد العجم ثم أضفت إليه بعد وقت فصولا كثيرة من الاحتجاج على اليهود من التوراة حتى صار كتابا بديعا لم يعمل في الإسلام مثله في مناظرة اليهود البتة وأما المنام الأول والمنام الثاني فإني لم أذكرهما للصاحب ولا لغيره من أهل مراغة إلى انقضاء أربع سنين من أوان رؤيتهما.

وكان ذلك لشيئين أحدهما أني كرهت أن أذكر أمرا لا يقوم عليه البرهان فربما يسرع خاطر من يسمعه إلى تكذيبه لأنه أمر نادر قليلا ما يتفق إذا كان العاقل يكره أن يعرض كلامه للتكذيب سرا أو علانية

والثاني أني كرهت أن يصل خبر المنامين إلى من يحسدني في البلاد على ما فضلني الله به من العلم والحرمة فيجعل ذلك طريقا إلى التشنيع علي والإزراء على مذهبي فيقول إن فلانا ترك دينه لمنام رآه وانخدع لأضغاث أحلام فأخفيت ذلك إلى أن اشتهر كتاب إفحام اليهود وكثرت نسخه وقرأه على جماعة كثيرة من الناس فلما تحقق الناس أعني أن التقالي من مذهب اليهود إنما كان بدليل وبرهان وحجج قطعية قطعية عرفتها وأني كنت أخفي ذلك ولا أبوح به مدة مراقبة لأبي وبرا به فحينئذ أظهرت قصة المنامين وأوضحت أنهما كانا موعظة من الله تعالى وتنبيها على ما يجب تقديمه ولا يحل لي تأخيره بسبب والد أو غيره وكتبت كتابا إلى أبي إلى حلب وأنا يومئذ بحصن كيفا وأوضحت له في ذلك الكتاب عدة حجج وبراهين مما أعلم أنه لا ينكره ولا يقدر على إبطاله وأخبرته أيضا بخبر المنامين فانحدر إلى الموصل ليلقاني وفاجأه مرض جاءه بالموصل فهلك فيه فليعلم الآن من يقرأ هذه الأوراق أن المنام لم يكن باعثا على ترك المذهب الأول فأن العاقل لا يجوز أن ينخدع عن أحواله بالمنامات والأحلام من غير برهان ولا دليل

لكنني كنت قد عرفت قبل ذلك بزمان طويل الحجج والبراهين والأدلة على نبوة سيدنا محمد فتلك الحجج والبراهين هي سبب الانتقال والهداية وأما المنام فإنما كانت فائدته الانتباه والازدجار من التمادي في الغفلة والتربص بإعلان كلمة الحق بعد هذا ارتقابا لموت أبي فالحمد لله على الإسلام وكلمة الحق ونور الإيمان ونور الهداية وأسأله الإرشاد لما يرضيه بمحمد وصحبه وسلم تسليما كثيرا

انتهى كلامه من مقدمة إفحام اليهود

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير