ـ[أبو سليمان العسيلي]ــــــــ[22 - 10 - 08, 05:39 م]ـ
سادساً: عبقرية حربية فذة:
لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن حي غلطة خوفاً على سفنه من الجنوبيين، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة.
جمع محمد الفاتح أركان حربه وعرض عليهم فكرته، وحدد لهم مكان معركته القادمة، فتلقى منهم كل تشجيع، وأعربوا عن إعجابهم بها.
بدأ تنفيذ الخطة، وأمر السلطان محمد الثاني فمهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفعة، الا أنه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن [46].
وجرت السفن من البسفور إلى البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال، حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو، بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته [47].
كان هذا العمل عظيماً بالنسبة للعصر الذي حدث فيه بل معجزة من المعجزات، تجلى فيه سرعة التفكير وسرعة التنفيذ، مما يدل على عقلية العثمانيين الممتازة، ومهارتهم الفائقة وهمتهم العظيمة. لقد دهش الروم دهشة كبرى عندما علموا بها، فما كان أحد ليستطيع تصديق ماتم. لكن الواقع المشاهد جعلهم يذعنون لهذه الخطة الباهرة.
ولقد كان منظر هذه السفن بأشرعتها المرفوعة تسير وسط الحقول كما لو كانت تمخر عباب البحر من أعجب المناظر وأكثرها إثارة ودهشة. ويرجع الفضل في ذلك الى الله سبحانه وتعالى ثم إلى همة السلطان وذكاءه المفرط، وعقليته الجبارة، والى مقدرة المهندسين العثمانيين، وتوفر الايدي العاملة التي قامت بتنفيذ ذلك المشروع الضخم بحماس ونشاط.
وقد تم كل ذلك في ليلة واحدة واستيقظ أهل المدينة البائسة صباح يوم 22 أبريل على تكبيرات العثمانيين المدوية، وهتافاتهم المتصاعدة، وأناشيدهم الإيمانية العالية [48]، في القرن الذهبي، وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين [49]، ولقد عبر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال: ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الأسكندر الأكبر [50].
ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الإشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة" [51] وكان لوجود السفن الاسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى [52].
وقد حاول الإمبراطور البيزنطي تنظيم أكثر من عملية لتدمير الأسطول العثماني في القرن الذهبي إلا أن محاولته المستميته كان العثمانيون لها بالمرصاد حيث أفشلوا كل الخطط والمحاولات.
واستمر العثمانيون في دك نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع، وحاولوا تسلَّق أسوارها، وفي الوقت نفسه انشغل المدافعون عن المدينة في بناء وترميم مايتهدم من أسوار مدينتهم ورد المحاولات المكثفة لتسلق الأسوار مع استمرار الحصار عليهم مما زاد في مشقتهم وتعبهم وإرهاقهم وشغل ليلهم مع نهارهم وأصابهم اليأس [53].
كما وضع العثمانيون مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة مما عرقل حركة سفن الأعداء وأصابها بالشلل تماماً [54].
¥