عاد مترجمنا إلى بلده بعد رحلة علم وطلب دامت أكثر من عشرين سنة كما قلنا سابقا ليستقر في مجانة يشتغل بالتجارة، و يعقد مجالس العلم و الإملاء و قد شاع اسمه و ذاع و انتشر في ربوع الأندلس و بلاد المغرب، فقصده العلماء و المحدثين و طلبة العلم من كافة الأقطار و تزاحموا على مجالسه، و استفاد منه خلق كثير، و يكفى أن نذكر منهم حافظ المغرب و شيخ الإسلام ابن عبد البر صاحب التآليف الماتعة مثل: كتاب " التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " و " الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار " وستأتي ترجمته في تلاميذه.
ولم تقتصر مجالسه على مدينة بجانة وحدها، فقد ذكر تلميذه ابن الحذاء أنه كان يزور قرطبة من حين لآخر للتجارة و يجلب معه كتبه، فتُقرأ عليه و يُحَدث بها و يشرح و يُفَقِه فينتفع الناس بمجالس السماع و الإملاء التي يعقدها طوال فترة بقائه بها، كما جلس للرواية و التدريس بمدينة المرية التي كان يقيم بها كذلك لفترات متقطعة، فكان على هذه السيرة حتى وفاته رحمه الله رحمة واسعة.
شيوخه:
تلقى أبو القاسم الوهراني العلم و سمع الحديث الشريف وأخذ عن حفاظ و مشايخ كثيرين، سأقتصر على ذكر ترجمة لأشهرهم حتى نتعرف على هؤلاء العلماء الحفاظ الأفذاذ الذين كان لمترجمنا شرف التتلمذ عليهم و إجازته بإسنادهم العالي:
01 - محمد أبو بكر الأبهري (395 هـ):
محمد بن عبد الله بن صالح سكن بغداد وحدث بها عن جماعة منهم: أبو عروبة الحراني وابن أبي داود ومحمد بن محمد الباغندي وأبو بكر بن الجهم الوراق وابن داسة والبغوي وأبو زيد المروزي وله التصانيف في شرح مذهب مالك والاحتجاج له والرد على من خالفه.
وكان إمام أصحابه في وقته. حدث عنه جماعة منهم البرقاني وإبراهيم بن مخلد وابنه إسحاق بن إبراهيم ..... و من أهل الأندلس أبو عبيد الجبيري والأصيلي وأبو القاسم الوهراني واستجازه أبو محمد بن أبي زيد. وكان ثقة أميناً مشهوراً وانتهت إليه الرياسة في مذهب مالك.
جمع بين القراءات وعلو الإسناد والفقه الجيد وشرح المختصرين: الكبير والصغير لابن عبد الحكم وانتشر عنه مذهب مالك في البلاد وكان القيم برأي مالك في العراق في وقته معظماً عند سائر علماء وقته لا يشهد محضراً إلا كان المقدم فيه وكان الأبهري أحد أئمة القرآن المتصدرين لذلك والعارفين بوجوه القراءة وتجويد التلاوة.
((وأملى أبو القاسم الوهراني في أخباره جزءاً فقال: كان رجلاً صالحاً خيراً ورعاً عاقلاً نبيلاً فقيهاً عالماً ما كان ببغداد أجل منه. ولم يعط أحد من العلم والرياسة فيه ما أعطي الأبهري في عصره من الموافقين والمخالفين ولقد رأيت أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إذا اختلفوا في أقوال أئمتهم يسئلونه فيرجعون إلى قوله. وسمعته يقول: كتبت بخطي: المبسوط والأحكام لإسماعيل وأسمعة بن القاسم وأشهب وابن وهب وموطأ مالك وموطأ بن وهب ومن كتب الفقه والحديث نحو ثلاثة آلاف جزء بخطي)).
[الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون 1/ 307].
02 - تميم بن محمد بن أحمد بن تميم التميمي (ت 359 هـ)
ولد أبي العرب. يكنى بأبي العباس. وسماه بعضهم تماماً. والأول هو المعروف. أدرك صغار رجال سحنون، عيسى بن سليمان، والمغامي، وابن أبي زاهر، ومحمد بن بسطام، وحماس بن مروان، وفراتا، ومحمد بن عمر. وسمع من أبيه والقطان، ونفيس السوسي، وسع منه أبو محمد الأجدابي، والوليد بن مخلد، والأندلسي، وأبو القاسم الوهراني، وغيرهم. وكان يحفظ المسائل، ويتكلم فيها. وكان من أهل الورع والاجتهاد والانقباض، قرئ عليه بالقيروان، وسمع منه.
((قال أبو القاسم الوهراني: - فيما وجدته معلقاً عنه في أخبار رحلته وشيوخه - وكان أبو العباس تميم بن محمد كوالده خيراً فاضلاً، ورعاً زاهداً، متقشفاً من أهل العلم والصيانة. لزمته أربعة أعوام للسماع منه، وأخوه أحمد يكنّى بأبي جعفر، ودخل الى الأندلس واستوطن قرطبة، وحدث عن أبيه، وعبد الله بن محمد الرعيني، وأبي الغصن السوسي، وكان يضعّف. تكلم فيه أخوه وقال: إنه لم يسمع كتب أبيه. وكان هو يدعي سماعها)). [ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض السبتي 1/ 458].
03 - الحسن بن رشيق (370 هـ).
¥