[مقامة الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لابن القيم رحمه الله.]
ـ[أبو الوليد التويجري]ــــــــ[20 - 02 - 09, 11:55 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقعت عيناي مقطوعة أدبية رائعة رائقة شائقة؛ لأبي عبد الله ابن القيم - رحمه الله -؛ تكلم فيها عن الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ذكر الهجرة إلى الله تعالى.
وهي من روائعه المعهودة، ومخطوطات بنانه المجيدة، قدس الله روحه.
قال - رحمه الله -: "وأما الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم؛ فمَعْلَمٌ لم يبق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك منه بُنَيَّات الطريق سوى اسمه، ومحَجَّةٌ سَفَتْ عليها السوافي فطمست رسومها، وأغارت عليها الأعادي فغوَّرت مناهلها وعيونها، فسالكها غريب ين العباد، فريد بين كل حي وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون، مقيم إذا ظَعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبه، لا يقر له قرار حتى يظفر بأربه؛ فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينُهم وما ليل مطيه بنائم، وقعدوا عن الهحرة النبوية وهو ف يطلبها مشمر قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، عليه إزراءً على جهالاتهم وأهوائهم، قد رجموا فيه الظنون، وأذكوا فيه العيون، وتربصوا به ريب المنون، "قل تربصوا إنا معكم متربصون "، "قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون".
نحن وإياكم نموت ولا ** أفلح عن الحساب من ندما
والمقصود أن هذه الهجرة شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعيرٌ بعيد.
بعيد على كسلان أو ذي ملالة ** وأما على المشتاق فهو قريبُ
ولعمر الله؛ ما هي إلا نور يتلألأ، ولكن أنت ظلامه، وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها ولكن أنت غيمه وقتامه، ومنهل عذب صافٍ، ولكن أنت كدره، ومبتدأ له خبر عظيم، ولكن ليس عندك خبره.
فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها، وحاسب نفسك بينك وبين الله هل أنت من المهاجرين لها، أو المهاجرين إليها.
فحَدُّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلوب، وحادثة من حوادث الأحكام؛ إلى معدن الهدى، ومنبع النور والتقى، من فم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى؛ "إن هو إلا وحيٌ يوحى ".
فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحار الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكي الصادق وإلا فعده من أهل الريب والتهمات، فهذا هو حد الهجرة.
فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده، القاطنِ في دار مرباه ومولده، القائل: إنا على طريقة آبائنا سالكون، وإنا على آثارهم مقتدون؛ وما لهذه الهجرة؟
قد ألقى كُلَّه عليهم، واستند في معرفة طريق نجاته وفلاحه إليهم، معتذرًا بأن رأيهم له خير من رأيه لنفسه، وأن ظنونهم وأوهامهم؛ أوثق من ظنه وحَدْسه.
ولو فتشتَ عن مصدر هذه الكلمة؛ لوجدتها صادرةً عن الإخلاد إلى أرض البطالة، متولدةً بين بعل الكسل وزوجته الملالة " انتهى كلامه رحمه الله.
(الرسالة التبوكية/من مجموع الرسائل:21 - 24) ط: دار عالم الفوائد.
وغير خافٍ ما في هذه المقامة البديعة من مسحة بيانية راقية، وأدب عالٍ رفيع، وأعتقد أن نثر ابن القيم يستحق دراسة أدبية فاحصة، تبرز الموهبة الفذة، وتتلمس مواطن الفصاحة، ومباحث البلاغة، ودرر القول وأفانين الكلام.
وهذا من سمات التأليف عند ابن القيم - رحمه الله - (انظر: ابن القيم، حياته وآثاره: 115).
ومما ألف في ذلك كتاب: روائع التشبيه في كتب ابن القيم، لماجد المقرن، في 120 صفحة من القطع الصغير.
ـ[أحمد بن عباس المصري]ــــــــ[20 - 12 - 09, 05:56 م]ـ
جزاك الله خيرا ...