يتوقف ثانية يعيد ترتيب أفكاره، ثم يقول وهو يقدم لي الحلوى والشاي بكل تواضع: شيء آخر هام؛ النظام الملكي ظل قائما بعد حركة الجيش في 23 يوليو، وكنت أنا ملكا لمدة 11 شهرا بمجلس وصاية شكله مجلس القيادة الثورة برئاسة الأمير محمد عبد المنعم، تلك حقيقة تاريخية، وقد رفض والدي بشكل قاطع أن يكون سببا في إراقة دماء مصرية فمنع وحدات الجيش التي كانت تدين بالولاء له من الاشتباك مع من قاموا بالانقلاب العسكري؛ كانت وحدات من البحرية والحرس الملكي وكثير من الضباط طلبوا منه أن يأذن لهم بالتدخل، وطلبوا خطة طوارئ عاجلة إلا أنه منعهم من الرد، وآثر الخروج من البلاد وتنازل عن العرش كي يحقن دماء المواطنين، ولا يكون سبباً في إراقة نقطة دم واحدة يسأل عنها يوم القيامة، لقد كان يدرك والدي أن الأوضاع في حاجة إلى إصلاحات وتغيير، وقد حاول تغيير كثير من الوزارات والحكومات من أجل النهوض بمصر، فمن الظلم أن يعتبر المسؤول الأول والأخير عن السلبيات والأخطاء والنقائص، فمصر كانت دولة ديمقراطية برلمانية ووالدي كان ملكاً دستورياً؛ بمعنى أنه كان يملك ولا يحكم، وكانت الصحافة حرة واعتادت على توجيه الانتقادات الحادة له؛ بل كثيراً ما رفضت الحكومة وكذلك البرلمان طلبات الملك.
هل من مثال؟
- في عام 1951 عندما طلب الملك تزويد القصور الملكية بأجهزة تكييف ورفض طلبه، فقد كان ملكاً عادلاً ورمزاً للوطن وراعياً للدستور؛ وقائداً للجيش، وحرص على تحقيق توازن بين القوى السياسية لكنه كان يمارس ذلك عبر الحكومة والتي تتحمل المسؤولية أمام البرلمان.
يبتسم ويعلق ضاحكا: الطريف أنه حينما آلت هذه القصور إلى الثورة زودتها الحكومة بأجهزة تكييف أغلى بكثير من التي كان قد طلبها الوالد.
ثمة أقوال تتردد أن الملك بعد قيام الثورة قد أخذ ثروة طائلة أثناء خروجه من مصر وأنه تركها لك.
يضحك مستغربا ثم يقول؛ حينما قامت حركة الجيش؛ كان الملك فاروق في مقرة الصيفي بالإسكندرية، ومن المعروف أن كنوز العائلة المالكة والتي هي ثروة قومية كانت في قصر عابدين والقبة بالقاهرة، وقد غادر والدي البلاد في عجلة من أمره، فقد كانت المهلة التي أعطيت له 24ساعة لمغادرة البلاد، ولذلك لم يأخذ معه سوى ما كان لديه من ممتلكات في الإسكندرية فقط؛ وهي أشياء صغيرة جدا، وقد عاش والدي في روما كملك في المنفي محاطا بحاشية من خاصته وموظفيه؛ كان مسئولا عنهم ويعولهم وذلك أدى حين وفاته إلى تركي وشقيقاتي في حالة جد صعبة ودقيقة كنت في الثالثة عشرة من عمري، وكان عليَّ أن أواصل دراستي، وبالطبع عشت وإخوتي البنات سنوات قاسية ولله الحمد تمكنت من إنهاء دراستي بالحصول علي ليسانس في العلوم الاقتصادية؛ أتاح لي فرصة الالتحاق بعمل كريم كمستشار في مؤسسة اقتصادية عالمية.
هل صحيح أن الرئيس السادات أول من أعترف بك كمواطن مصري؟
(يصمت قليلاً ويرحل بخاطره بعيداً ثم يقول:)
- كثيرون من الأمراء والنبلاء حينما يكلموني يظنون أن الرئيس أنور السادات هو أول من أعترف بي كمواطن مصري بسبب إعلانه ذلك وقتها أمام الشعب؛ وهذا صحيح لكن جمال عبد الناصر فعل ذلك قبله؛ فلم تكن لدي أوراق تثبت جنسيتي؛ فبعثت أطلب شهادة ميلادي؛ فأمر شخصياً باستصدار الشهادة وتم التوقيع عليها قبل وفاته بشهر.
لكن لك قصة مع الرئيس السادات؟ أعتقد أنه كان يحترمك ومعجب بك.
- قصتي مع الرئيس السادات تعود حينما انتصرا الجيش المصري في حرب أكتوبر, وكانت مصر في حاجة إلى مساعدة كل أبناءها, فأسرعت بإرسال مبلغاً من المال مساهمة مني للمجهود الحربي, كان وعلم بما تبرعت به وتأثر كثيراً وقرر أن ترد لي الجنسية المصرية وتسليمي جواز سفر مصري”. وكانت هذه نقلة كبيرة فتشجعت بطلب منه أن يسمح بنقل رفات أبي إلى مسجد الرفاعي حيث يرقد والده وأجداده؛ وفوجئت بسرعة استجابة الرئيس السادات لطلبي. وهي مبادرة إنسانية لا أنساها له, كما أتذكر له لفته طيبة حينما تزوجت أرسل لي تهنئة رقيقة ومعها هدية قيمة جداً سيف والدي بل وسمح لمولودي الأول محمد علي بأن يولد في مصر والمفارقة أن الطبيب كان الدكتور مجدي باشا, الطبيب الذي قام بعملية ولادتي من أمي الملكة ناريمان. ولكني لم أذهب مع زوجتي وأرسلت شقيقتي الأميرة فوزية معها وكم كانت فرحتنا كبيرة حيما زارت السيدة جيهان السادات زوجتي في المستشفى لتهنئتها بسلامة الولادة
قبل اللقاء رجوتني ألا نتكلم في السياسة ولكن كيف تنظر إلى الرئيس حسني مبارك؟
- احترمه جدا لكونه نقي اليد وصادق في حب مصر.
بصراحة وبكل ديمقراطية ألا تحلم بالعودة إلى ملك مصر؟
- هذا مستحيل, فليست لي أية أطماع سياسية وقد كبرت وتجاوزت الخمسين؛ ثم أنه بكل موضوعية أؤكد بأن الملكية كانت مرحلة من مراحل تاريخ مصر وانتهت إلى الأبد وتعيش مصر عصر الجمهورية.
ماذا لفت نظرك في مصر خلال زياراتك إليها؟
- بصراحة أول مرة زرتها فوجئت بالزيادة السكانية العظيمة , فمصر عم 50 كانت تقريبا 30 مليون اليوم تتجاوز ال70 مليون وهذا يؤثر على الاقتصاد غير إن المصريين يسكنون ثلث البلاد ويتركون ثلثين كبيرين لكن الجميل إن الحكومة متواصلة في عمليات البناء والإصلاحات.
هل تعلم أن كثير من المصريين المقيمين في فرنسا يعشقون الملك فاروق ويذكرون محاسنه؟
- أنهم بذلك يذكرون شبابهم ويتذكرون أيام مصر الجميلة.
وفي الختام سألته ماهي أمنيتك؟
- أن يوفقني الله في تربية أبنائي وبناتي كما يليق بعائلتنا العريقة وأن يحفظ الله مصر وشعبها ويوفق رئيسها للخروج بالبلاد بسلام من وسط أمواج وعواصف العولمة والمعطيات السياسية والدولية والرهانات الإقليمية؛ كما أتمنى أن أعيش في مصر وأسرتي الكريمة حيث أتمنى أن يتربى أبنائي في بلدهم وليس في الغربة فمصر أعظم واعرق دولة في التاريخ.
¥