(( ... ولو أردت أن استرسل في هذا الموضوع لما أعجزني الحديث، فانا اذكر جيدا فرحته العظمى حين رآني ذات يوم قد دخلت الدار حاملا برقية، كأنه أدرك ما فيها قبل أن اخبره فبادرني بالسؤال: ألبس قد أطلق سراح الشيخ العربي التبسي؟ ولما أجبته أن نعم، مدّ إلي يده بنقود كأني أنا السبب في ذلك، ولا يزال ذلك اليوم مصحوبا في ذهني بصورة لأكلة شهية صنعت لنا احتفالا بهذه المناسبة، وأرجو أن لا يفهم القارئ أن فرح الصبي الذي هو أنا بالأكلة كان أكثر من فرحته بالشيخ العربي التبسي.
كما اذكره حيرته ذات يوم وقد تملكه الغضب وصار يعاملنا بلون من القسوة ونوع من الشدة لم نعهده منه، حتى إذا لمحت علي جدتي شيئا من الدهشة لهذه الثورة المفاجئة، قالت لي في همس: لا تعجب فقد صدر الأمر بنفي الشيخ خير الدين."
مذكرات الشيخ محمد خير الدين - الجزء 1 / ص 102
مؤسسة الضحى الجزائر، الطبعة الثانية 2002.
ـ[ابو مريم الجزائري]ــــــــ[23 - 06 - 09, 12:11 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
زيارة وفد الجمعية الى مدينة بسكرة ومواقف الامام ابن باديس من حاكمها وأذنابه، مع العلم أن مدينة بسكرة في تلك الفترة الاستدمارية كانت تحت الحكم العسكري حيث عين لها حاكم برتبة رائد - كومندان - له كامل الصلاحيات (لا تطبق فيها الا الاحكام العسكرية، ويطبق فيها منع التجول، ويمنع فيها اجتماع اكثر من ثلاثة أشخاص ... وغيرها من الاحكام التعسفية)
قدم وفد العلماء على رأسهم الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى الصحراء للقيام بجولة فيها عام 1931م، فقوبل بالحفاوة والترحيب الحار في كل مكان حل به، زار هذا الوفد بسكرة وأقام بها عدة أيام حفلت بالنشاط وإلقاء دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، وتدفقت وفود الطلاب والأعيان كالسيل المنهمر للمشاركة في الترحيب والاستماع إلى الدروس وكان هذا التدفق يعبر عن روح جديدة وآمال عريضة تبشر بالخير وتطمئن النفوس على الحركة الإصلاحية في هذه الناحية وتعكس مقدار عمقها في نفوس الشعب الجزائري المسلم.
وأثناء هذه الزيارة قدم وفد من طلبة سيدي عقبة وأعيانها وأعربوا عن رغبتهم ورغبة مواطنيهم في هذه الناحية أن يزورهم الإمام عبد الحميد بن باديس، فلبى دعوتهم شاكرا فضلهم، وفي صبيحة اليوم الثاني سافر فريق العلماء والطلبة صحبة الإمام إلى بلدة سيدي عقبة فوجدوا السكان قد خرجوا عن بكرة أبيهم يترقبون قدوم الشيخ وصحبه، فنزل الشيخ ورفاقه وصافحوا المستقبلين ثم مشى ابن باديس وسارت الحشود خلفه رافعين أصواتهم بالتكبير والتهليل إلى أن وصل الموكب إلى باب المسجد الكبير حيث دفن الصحابي الجليل عقبة بن نافع، فوجدنا باب المسجد مغلقا بأمر من حاكم المنطقة.، ووجدنا الحاكم نفسه أمام الباب ومعه مترجميه وأعوانه من الفرنسيين والعرب. وبادر المترجم وقال لابن باديس أن الوالي العام للقطر الجزائري أمر بإغلاق باب الجامع ومنعك من الدخول، فجلس الشيخ على الارض، وكان يرتدي ثيابا من الصوف الأبيض والأرض مليئة بالغبار الذي تثيره الرياح وقال للحاكم خبر الوالي العالم بان ابن باديس جالس على الأرض في هذا المكان ولا يرجع حتى يدخل الجامع " وجلس إلى جوار ابن باديس بعض مرافقيه من العلماء.
اضطرب الحاكم وبدا القلق على وجهه ثم اتجه إلى إدارة البريد لتبليغ الوالي العام بهذا الأمر ويطلب رأيه بحل المشكل، وبعد قليل عاد الحاكم إلى مكانه أمام الباب وقال للشيخ " إن الوالي العام أذن لكم بالدخول للزيارة فقط، ومنعك من إلقاء الخطبة، فأجابه الشيخ بصوت ينم عن عدم المبالاة وأشار بيده كأنه يأمره بالفتح قائلا: " افتح ... افتح"، ثم دخل الشيخ واندفع الشعب خلفه ووقف الشيخ أمام الضريح ولم يجلس كعادته أثناء إلقاء الدروس، وأخذ يتحدث قرابة الساعة كاملة، وألقى درسه فتلا قوله تعالى " المص كتاب انزل إليك فلا يكن في .... للمؤمنين " الأعراف الآيتان 1و2)
وكان هذا الدرس من أعظم الدروس التي تعوَّد الشيخ ارتجالها كلما جد الجد.
...
وكان للشيخ الطيب العقبي بستان قريب من الجامع فأمرت الشباب بفتح البستان وإحضار البسط وبعض المقاعد وطاولة واعددنا المكان للاجتماع العام، وانتظرت حتى انتهى الشيخ من الدرس وصحبته إلى البستان وتبعنا الناس وأغلقنا الباب في وجه المستعمرين كما حاولوا إغلاق باب الجامع في وجوهنا من قبل، وكانت واحدة بأخرى أشد وأنكل.
كان يوما عظيما تلت فيه آيات من القرآن [الكريم] وألقيت فيه دروس وخطب، أعاد الى الأذهان جهاد البطل الفاتح والصحابي الجليل عقبة بن نافع وتحريره للشمال الإفريقي من الحكم الصليبي والاستعمار الروماني الذي دام قرابة ستة قرون.
ثم رجع الشيخ وصحبه الى قسنطينة فرحين مستبشرين بما لقوا من نصر وتأييد،، وما تركته هذه الرحلة من صدى في نفوسهم بان حركة الإصلاح تحققت وازدهرت أثارها البعيدة المدى في مستقبل الشعب وحياته، وعمت الفرحة قلوب المسلمين في سائر الصحراء.
أما أعداء الاسلام والمسلمين من الحكام العسكريين والمبشرين المسيحيين فقد اهتزوا فزعا من هذه الزيارة التي جسدت في عيونهم حياة الشخصية الجزائرية ووضعها في إطارها الأصيل الصحيح وهو انها عربية مسلمة، تلك الشخصية التي حاول الاستعمار طمسها أو القضاء عليها منذ وطأت أقدامه أرض الجزائر.
مذكرات الشيخ محمد خير الدين - الجزء 1 / ص 82 - - 83.
مؤسسة الضحى الجزائر، الطبعة الثانية 2002.
¥