إذن فقد كانت هناك أسباب أخرى خفية أدت إلى أن تتخذ السلطات الإسبانية قرارها بطرد الموريسكيين. إنإسبانيا فى القرن السادس عشر–ببساطة- قد أسكرتها نشوة القوة العسكرية الهائلةفراحت تتصرف على هذا الأساس وقررت التخلص من المسلمين. هل يعيد التاريخ نفسه وتقرر دولة قوية حاليا الهيمنة الثقافية على العالم ومحو هوية شعوب أخرى؟
بعد ذلك يعيد بيانويبا قراءة وثيقتين قديمتين. "الوثيقة" الأولى هى كتاب ميغيل دى لونا "القصة الحقيقية للملك رودريغو". اكتفى الدارسون بالقول إن لونا قد زوّر التاريخ وهو يقص حكاية الملك القوطى رودريغو، بل إن ناقدا بحجم بيداال رماه بالجنون، أما بيانويبا فيرى أن الموريسكى لونا حين خالف التاريخ خالفه عن عمد سعيا إلى تحقيق هدف نبيل. إنه أراد أن يستمع الناس إلى رأى الموريسكيين فى مجريات الأحداث.
يقول لونا إنه نحى الخرافات جانبا واعتمد فى كتابة تاريخ رودريغو على مخطوطة باللغة العربية حررت فى بخارى عام 763، وكأنه يريد أن يقول إن اللغة العربية مهمة جدا للحفظ على التراث الإسبانى.
يقدم لونا الماضى القوطى لإسبانيا وكأنه كابوس مظلم جاء الفتح الإسلامي للقضاء عليه.
المهم هو أن لونا حين يحكى قصة الملك رودريغو يهاجم -ضمنا- السياسة التى اتبعتها السلطات المسيحية، فهو يبرز تسامح المسلمين لإبراز تعصب المسيحيين.
وحين يروى لونا حكايته فإنه يعكس تاريخ إسبانيا الحديث، ومغزى القصة هو مدح العرب. صورة يعقوب المنصور التى يعرضها هى مثال نموذجى لكل أمراء العالم، وهى صورة تخالف رودريغو، فهو حاكم عادل وحكيم ورمز للعلم والثقافة، أى أن المنصور كان على النقيض من الملوك الإسبان فى القرن السادس عشر. فى ذلك الوقت كان على الإنسان أن يعمل (أى أن قيمة الإنسان كانت تكمن فى عمله لا فى أصله، وهذا يتناقض مع مبادئ المسيحيين القدامى)
إذن لم يكن هدف لونا هو كتابة قصة الملك رودريغو، بل كان يشغله مصير الشعب الموريسكى الذى سيتأثر حتما بأى قرارات يصدرها الملك الإسبانى.
إذا كان المسلمون الفاتحون لإسبانيا قد أقروا تمتع المهزومين بحرية العقيدة فإنهم بذلك وضعوا حلا عمليا يمكن أن يطبقه ملوك إسبانيا المسيحيون.
يخلص كتاب لونا إلى أن العرب قد أرسلتهم العناية الإلهية إلى إسبانيا لتخليصها من ظلم القوط ولإقرار حرية العبادة. إن الدين الإسلامى ليس شيطانيا بل يدعو إلى الأخلاق القويمة والفضيلة، ويمكن للإسلام والمسيحية أن يتعايشا معا. إن لونا يدعو إلى أن يكون العمل هو معيار الشرف. ويرى بيانويبا أنه ليس من الصدفة أن يتم طبع الكتاب عام 1609 فى مدن إسبانية كان الموريسكيون يشكلون فيها أهمية قصوى.
إن كتاب لونا قد خالف التاريخ بشكل واضح لكى يجعل صوت الموريسكى مسموعا لدى الآخرين. إنه رد فعل للتعتيم الذى مارسته السلطات المسيحية الإسبانية ضد كل من يحاول الاختلاف معها. أن لونا بكل تأكيد ليس مجرد مزور أو -كما يقول بيدال- مجنون، بل هو رجل صاحب قضية.
الوثيقة الثانية التى يتناولها بيانويبا بالتحليل ويعيد قراءتها هى الموعظة الشهيرة التى ألقاها البطريرك ريبيرا فى كاتدرائية فالنسيا.
ان كلمات ريبيرا فى موعظته التى ألقاها فى 27سبتمبر 1609 - اى بعد خمسة ايام فقط من نشر قرار الطرد – تنم عن عداء المستمعين إليه ومحاولته إسكات التمرد.
يحاول بيانويبا أن يرسم صورة للبطريرك فيقول إنه لم يكن متسامحا قط مع الموريسكيين وإن تصرفاته كانت تعكس أحيانا اتجاه السلطة، ومن ثم كانت شخصيته معقدة، فنحن لا ندرى متى كان يتصرف عن اقتناع ومتى كان يتصرف كمنفذ لسياسة عليا.
إن البطريرك فى موعظته التى ألقاها بمناسبة طرد الموريسكيين كان كمن يعتذر عن جرم ارتكبه، وكان يحاول أن يهدئ من روع النبلاء المسيحيين الذين حزنوا لخروج الموريسكيين. إن حديث ريبيرا المتواصل عن عدم فقد شئ يدل بوضوح على أن الاتجاه العام فى فالنسيا كان يشعر بخطورة فقدان العنصر الموريسكى وأن ريبيرا كان بوقا للدعاية يحاول أن يسكت المعارضة.
¥