فلمّا أراد الله ذلك، هيّأه لذلك، فكان كاملا كمال الشّريعة، فيجد فيه الحاكم قدوته في سياسة دولته، والأب يجد فيه قدوته في تربية أولاده، والزّوج تعامله مع زوجته، والمعلّم براعة الطريقة في تعليمه، والتّلميذ حسن تأدّبه مع شيخه، والزّاهد يجد صدق زهده، والتّاجر صدق تعامله، والعامل أمانة عمله، والغنيّ قمّة في شكر ربّه، والفقير غاية في صبره، واليتيم صورة لتوكّله على ربّه، والدّاعي نبراسا لدعوته .. فنبيّ مثل نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم جدير على كلّ مسلم أن لا تلفظ أنفاسه ولا تكون حركاته إلاّ بهديه.
الوجه الرّابع: تثبيت المؤمنين وردّ شبه المعاندين.
أمّا الأمر الأوّل: وهو تثبيت المؤمنين:
فإنّ تلك الشّمائل وتلك الصّفات والنّعوت بمثابة أشعّة الشّمس الّتي تنير دروب الصّالحين، وتضيء سبيل المتّقين ..
فأيّ عبارة تحيط ببعض نواحي ذلك الكمال؟! وأيّ كلمة تتّسع لأقطار ذلك الجلال؟ عظمة شملت كلّ قطر، وأحاطت بكلّ عصر، وكُتب لها الخلود أبد الدّهر؟!.
رأيناه في التّواضع كان سيّد المتواضعين ..
رأيناه في الجود كان في قمّة الباذلين:
تعوّد بسط الكفّ حتّى لو أنّه ثناها لقبض لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهلّلا كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أيّ النّواحي أتيته فلُجّته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفّه غير روحه لجاد بها فليتّق الله سائله
رأيناه في معاملته ودعوته أرحب النّاس صدرًا، وأوسعهم صبرا، لا يزيده جهل الجاهلين إلاّ حلما، ولا كيد الكائدين إلاّ كرما، ينادي أسراه في كرم وإباء: " اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
رأيناه يُخالط المسكين والفقير، وأرحم النّاس بالصبيّ والعجوز وذي الشّيبة الكبير ..
رأيناه أرفق الخلق بالخلق، وأشدّهم ثباتا على الحقّ، لا يغضب لنفسه، فإذا انتُهِكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وكأنّما يُفقأ في وجهه حبّ الرّمان من شدّة الغضب.
رأيناه أشجع الناس قلبًا وأقواهم إرادةً، يتلقّى النّاس بثبات وصبر، يخوض الغمار ويُنادي بأعلى صوته:
أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب
رأيناه أعفّ النّاس لسانًا، وأوضحهم بيانًا ..
رأيناه أعدل النّاس في الحكومة، وأعظمهم إنصافًا في الخصومة ..
رأيناه أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها بالله ..
رأيناه يدلّ النّاس على الجادّة، وأزهد النّاس في المادّة، وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يأكل ما يقدم إليه فلا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقودا، ينام على الحصير والجلد المحشوّ باللّيف. سمعنا عمر رضيَ اللهُ عنه يقول له متحسِّراً مشفقا حين رآه مُضْطَجِعاً عَلَى حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ وهو مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ: ادْعُ اللهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ! فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللهَ؟! - فَقَالَ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ!؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) ..
ويقول ابن مسعودٍ رَضِي اللهُ عنه: نَامَ رَسُولُ اللَّهِ رضيَ اللهُ عنه عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ، وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً؟ فَقَالَ: ((مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا؟! مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا)) ..
- وكان يأكل على الأرض ويقول: ((آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْدُ)).
ويقول: ((إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ: تَوَاضَعُوا!)).
- وكان إذا مشى مشى أصحابُه أمامه وتركوا ظهره للملائكة.
- وما مسّت يده امرأة لا تحلّ له قط.
- (لَمْ يَكُنْ فَاحِشاً وَلاَ لَعَّاناً وَلاَ سَبَّاباً، وَيَقُولُ عِنْدَ المَعْتَبَةِ: ((مَا لَهُ تَرِبَتْ يَمِينُهُ؟!)).
- ويقول عَمْرُو بْنُ العَاصِ رضيَ اللهُ عنه بعد إسلامه: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُقبِل علَيَّ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ إِلَيَّ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي خَيْرُ القَوْمِ [البخاري].
¥