تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

تلك القدور. وأصبح الناس فنُودي فيهم بالاجتماع إلى الطعام فأكلوا عنده، ورسول لذريق يأكل معهم. فلما فرغوا انصرف الرسول إلى لذريق، وقال له: أتتك أمة تأكل لحوم الموتى من بني آدم، صفاتهم الصفات التي وجدناها في البيت المقفل، قد أحرقوا مراكبهم ووطَّنوا أنفسهم على الموت والفتح. فداخَلَ لذريق وجيشه من الجزع ما لم يظنّوا".

ومن الأمور الغريبة أن يخترع الإنسان قصة لغرض ما ولا يحبكها بشكل جيد حيث يتركها مخالفة للمنطلقات الأساسية التي قام عليها القائد إيماناً بها وإيمان أمته بها، وربما كان ذلك حكمة كي يفضح الله أمره. ومن الغريب أيضاً أن ينقل بعض الذين يدوّنون الأحداث التاريخية أمثال هذه القصص دون النظر فيها ومن غير البحث في صحتها، وإنما يكتفون بسرد الأحداث والقصة على أنها أمور مسلّم بصحتها، وأغرب من هذا وذاك أن ترد أمثال هذه القصص مباشرة دون مناقشة، ومن غير تعليق عليها، وأعتقد أنه من الأفضل ألا نورد أمثال هذه القصة ولا نناقشها إلا إذا كانت الكتب لمستويات معينة.

إن هذه القصة قد وردت إلينا عن طريق غير ثقة إذ ذكرها ابن القوطية وعنه نقلها بعض المؤرخين، وإن هذه القصة وأمثالها سواء اتُّخِذَت وسيلة للحيلة وإلقاء الرعب في نفوس الأعداء أم لغيره فإنها لا تصح، لأن تقطيع لحوم الموتى والعبث فيها إنما هو نوع من المُثْلة وهو لا يصح في ديننا إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.

إن أول عمل يقوم به المسلمون بعد انتهاء المعركة وقبل غسل السيوف ومسحها إنما هو دفن الموتى، سواء أكانوا شهداءهم أم قتلى أعدائهم، ولكن القصة تروي أن الجاسوس قد جاء والجثث لا تزال ملقاة على الأرض، فهل جاء أثناء المعركة؟ هل جاء والمسلمون جالسون بين القتلى تنطلق منهم الروائح؟ أم ..

ولم تحدّد القصة هوية الجاسوس زيادة في الغموض، ولكن يستبعد أن يكون من القوط لأنه لا يمكن أن يدخل إنسان عسكراً لا يعرف لغتهم، ولا يطَّلع على أوضاعهم، ويجلس ليأكل معهم في الصباح، ولم ينتبه أحد إليه، إذ لم ينتبه إلا القائد، فهل جاء يعرض نفسه على القائد، ويعرّف بنفسه؟ غير أن سرْد الرواية يدل على أنه من القوط إذ تقول: "تخير لذريق رجلاً شجاعاً عارفاً بالحروب ومكائدها" حيث يعني هذا أنه يعرفه حق المعرفة وهو من جنده وهذا يستحيل، وهذا ما يوضح كذب القصة من أساسها. والمفروض في حالة كهذه إن كانت صحيحة أن يكون رجلاً من البربر مقرّباً إلى لذريق، وهذا مالا تورده القصة لأنها غير صحيحة. فلو ذكرت ذلك لكانت أقرب إلى التصديق، ومع ذلك فهناك اعتراض قوي إذ لا يمكن لبربري غريب أن يدخل في مجموعة من البربر انتقلوا مجاهدين وكل منهم يعرف الآخر لقلة عددهم، وكل مجموعة يعرف أفرادها بعضهم بعضاً، ويمكن أن يُكشف أمره مباشرة.

كانت أخبار المسلمين تسبق جيوشهم الفاتحة، وكانت أخبار أخلاقهم وسلوكياتهم تملأ المنطقة قبل أن تطرقها أقدام الفاتحين، ويبقى المسلمون في المغرب أكثر من أربعين سنة وهم في صراع مع الروم، ومع المتعصبين من البربر، وحاكم الأندلس على مقربة منهم ولا يعرف عنهم شيئاً، ولو كانوا يأكلون لحوم الموتى ويقتاتون بجثث قتلى حروبهم لذاع هذا الخبر وانتشر ولعمّ العالم يومذاك، ولساعد هذا على الوقوف في وجههم، ولو أن القتلى لا يؤلمها تقطيع لحومها، ولكن يقفون أمامهم لهذه لوحشية. فالقصة عارية عن الصحة تماماً.

لو كانت القصة صحيحةً لكانت مخالفة واضحة من القائد طارق، ولضجّ بها الجند، ووصلت إلى القيادة بل وإلى أمير المؤمنين، ولسُئِل طارق وحوسب، ونال ما يستحق من عقوبة عل هذه المخالفة لتعاليم الإسلام -إذ ليس غريباً أن تقع مخالفة أو يرتكب قائد خطأ فهو ليس بمعصوم-، غير أنه لم تكلم أحد في هذا القصة ممن كان في جنده، أو من الثقة في ذلك العصر، ولم يُسأل طارق، ولم يحدث ما يُشير من قريب أو من بعيد عن وقوع القصة. وقد دوَّنها فقط ووصلت إلينا عن طريق غير الثقاة. فالحادثة مختَلَقَة لا صحة لها أبداً.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير