ومع ذلك فقد استفاد موسى الصدر في هذه المرحلة من فتح، وأقام معها علاقات ودِّيَّة بُغية أن تقوم فتح بعد ذلك بتدريب الشيعة عسكريًّا؛ استعدادًا لتكوين مليشيات مسلحة تؤثر في مسيرة لبنان، وكانت فتح - في نفس الوقت - تبحث عن حليف إلى جوار الشيوعيين، فقامت بينهما علاقة مصالح.
الرئيس السوري حافظ الأسد
وفي سنة 1971م صعد إلى كرسي الحكم في سوريا الرئيس حافظ الأسد وهو من الطائفة العلوية النُّصيرية، وهي طائفة خارجة عن الإسلام وإنْ كانت محسوبة عليه في التقسيمات السياسية، وهم يؤلِّهُون عليًّا t - تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، ومع ذلك فقد سارع موسى الصدر بإعلان فتوى يشير فيها إلى أن العلويين شيعة، وأنه بذلك يعتبر حافظ الأسد من المسلمين! وهذا أدى إلى تقارب شديد مع سوريا ونظامها الحاكم، وصار موسى الصدر همزة وصل بين حافظ الأسد وقادة الثورة الإيرانية، حيث كان حافظ الأسد يؤيد الانقلاب على الشاه، بل إنه كان مؤيدًا لإيران بعد قيام الثورة في حربها ضد العراق؛ لعدائه الشديد لصدام حسين.
وهكذا كان موسى الصدر يضع بذور دولته الشيعية الجديدة، متعاونًا في ذلك بقوة مع المراجع الدينية الكبرى في العالم خاصة الخوميني، وكذلك مع نصارى لبنان، وأيضًا أمريكا وسوريا، بل أيضًا مع فتح المحسوبة على السُّنَّة.
وفي سنة 1974م أسس موسى الصدر حركة المحرومين، تنادي بحقوق أكبر للفقراء، وانضم في البداية عددٌ كبير من المسيحيين في الجنوب إلى هذه الحركة؛ ظنًّا منهم أنها حركة قومية تهدف إلى إخراج فقراء لبنان من أزمتهم، لكنهم خرجوا بعد رؤية التوجُّه الشيعي الواضح للحركة، ثم ما لبث الصدر أن عقد اتفاقًا مع ياسر عرفات قائد حركة فتح لتدريب حركة المحرومين عسكريًّا، تحت سمع وبصر الحكومة اللبنانية الضعيفة.
وفي يوليو 1975م أعلن الصدر عن تكوين جناح عسكري لحركة المحرومين سمّاه "أفواج المقاومة اللبنانية"، والتي تعرف اختصارًا بحركة "أمل"، وكان هو بالطبع على رأسها.
وما لبث موسى الصدر أن تنكَّر للفلسطينيين، وطالب بقوة برحيل الفلسطينيين السُّنة من الجنوب الشيعي، وسنرى - بعد ذلك - أن أتباعه في حركة أمل سيقاتلون الفلسطينيين في حرب المخيمات الشهيرة من عام 1985م إلى عام 1988م.
ودخلت لبنان في سنة 1975م في تيه الحرب الأهلية، وهي حرب معقدة جدًّا دخلت فيها أطراف داخلية كثيرة، وأطراف خارجية أكثر، وسنحتاج أن نُفرِد لها تحليلات خاصة حتى نفهمها بشكل واضح.
موسى الصدر وعداوات كثيرة
صار موسى الصدر بعد تأسيس المجلس الشيعي الأعلى، وبعد تأسيس حركة أمل قوة لا يُستهان بها؛ مما أثار حفيظة الكثيرين، ذلك أن موسى الصدر ما كان يخفي هذه القوة أو يواريها، بل كان كثيرًا ما يهدد صراحةً في مؤتمراته بتسليط أنصاره على قصور الأغنياء في لبنان إن لم تتحقق مطالبهم، بل إنه صار ينتقد بعض الأفعال للخوميني، ويتعامل مع الجهات العالمية دون الرجوع إلى المراجع الدينية التي أرسلته أصلاً إلى لبنان، وزاد الأمر حدة عندما زار إيران وتقابل مع الشاه شخصيًّا، طالبًا منه العفو عن اثني عشر قائدًا دينيًّا كان الشاه قد قرر إعدامهم، واعتبر الخوميني ذلك خروجًا عن التنسيق العالمي للشيعة، وتعاملاً مع الشاه عدو الثوريين. وتفاقم الأمر في سنة 1978م عندما تأزمت العلاقات فجأة بين سوريا والصدر، وذلك أن سوريا كانت تحت ضغط شديد من الدول المحيطة وأمريكا بعد زيارة السادات للكيان الصهيوني في سنة 1977م، وأرادت سوريا أن تقف معها لبنان بقوة لوجود الجيش السوري آنذاك بلبنان، وأرادت أيضًا من الصدر ألاّ يتخذ له حلفاء غير سوريا، لكن الصدر كان قد شعر بقوته وضعف موقف سوريا، فأراد أن يزيد من علاقاته مع الدول العربية مخالفًا بذلك لتحذير سوريا، ومن هنا زار الكويت، ثم أتبعها بالجزائر، ثم أخيرًا توجَّه إلى ليبيا في أغسطس 1978م، لتحدث المفاجأة الكبرى حيث أعلنت ليبيا أن الصدر قد غادر أراضيها في 25 من أغسطس 1978م، لكنه لم يظهر بعد ذلك في أي مكان في الدنيا!!
إنها مسألة عجيبة حقًّا؛ لأن موسى الصدر ليس طفلاً يتوه في المطار، وليس شخصية عابرة لا تدري الدولة أين ذهب، ولكن من الواضح أنه قد تم اعتقاله واغتياله.
إن الأعداد المتربصة بموسى الصدر الآن أصبحوا كثيرين، وأصابع الاتهام أشارت إلى عددٍ منهم، وعلى رأس هؤلاء قيادة الثورة التي ستقوم في إيران بعد عام واحد، والتي لا تريد وجود شخصيات كاريزمية لها علاقات متعددة تنافس الخوميني على صدارة الدولة الشيعية الجديدة. كما أن إغضاب النظام السوري كان يعني في ذلك الوقت مؤامرة اغتيال؛ فالطريقة الدموية التي كان يتعامل بها النظام السوري مع معارضيه معروفة ومشهورة، وليبيا نفسها كانت على علاقات قوية بقيادة الثورة الإيرانية، وستدعمهم بعد ذلك ضد العراق، أما القوى الداخلية في لبنان والتي تستفيد من إزاحة موسى الصدر فكثيرة؛ فالحرب الأهلية اللبنانية كانت على أشدها.
لقد أصبح اختفاء موسى الصدر لغزًا محيِّرًا تنافس السياسيون في حلِّه، لكن لم يصل أحدهم إلى نتيجة مؤكدة، والمهم أن موسى الصدر ترك الساحة من خلفه مشتعلة، وترك حركة أمل المسلحة التي تحمل مشروعه، وترك منصبًا شاغرًا في المجلس الشيعي الأعلى، وبعد عام واحد ستقوم الثورة الإيرانية لتطيح بالشاه، وبعد أعوام أربعة ستجتاح القوات الصهيونية جنوب لبنان.
ومن رحم كل هذه التشابكات المعقدة خرج حزب الله الشيعي ليكمل مشروع الصدر ولكن بتوجُّه إيراني لا التباس فيه .. كيف حدث هذا؟ وما هو مصير أمل؟ وما هو موقف الشيعة من الفلسطينيين في الجنوب؟ وكيف علا نجم حزب الله؟ ومن هو حسن نصر الله؟ وما هي عقيدته وأفكاره؟
هذا حديث قد يطول، وهو حديث مقالنا القادم بإذن الله، ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
المقال على الرابط ( http://www.islamstory.com/%D9%82%D8%B5%D8%A9_%D8%AD%D8%B2%D8%A8_%D8%A7%D9%84 %D9%84%D9%87_1_3)
للتعليق والتواصل مباشرة مع الكاتب
وجزاكم الله خيرًا
¥