وفي عام 1979م حدثت الثورة الإيرانية، وتم خلع الشاه، وعاد الخوميني من باريس (بعد أن أخرجته العراق سنة 1978م) إلى طهران، وتولى القيادة، وبدأ بترتيب الأوضاع هناك، وتخلص من منافسيه، وتنَكّر إلى من ساعدوه من التيارات الإيرانية الأخرى، وثبَّت أقدامه تمامًا، ولم يتجه إلى قُم المقدسة كما كان يتوقع الناس، بل بقي في طهران العاصمة.
بعد استقرار الأمور في إيران نظر الخوميني إلى لبنان والعراق، وهما المكانان الآخران اللذان يضمان أعدادًا كبيرة من الشيعة، وهما في نفس الوقت يمثلان بقية التخطيط الشيعي لإقامة دولة كبرى في المنطقة.
أما الوضع في العراق فكان متأزِّمًا جدًّا، فقد كان صدام حسين يفرض قبضة من حديد على الأمور هناك، وقد لمس الخوميني ذلك بنفسه، فقد عاش في العراق أربعة عشر عامًا كاملة انتهت بخروجه مضطرًّا إلى باريس، ومِن ثَمّ فالخوميني يعلم أن تنظيم الشيعة في داخل العراق لا يستطيع قلب نظام صدام حسين؛ ولذلك فقد اختار الخوميني الحلّ العسكري، وبدأ من فوره بحرب شاملة في سنة 1980م -بعد أقل من عام على الثورة الإيرانية- مع النظام العراقي، وذلك بُغية إسقاط النظام وتسليم الحكم لشيعة العراق، وبالتالي للانضمام للدولة الشيعية الكبرى التي يحلم بها الخوميني.
أما في لبنان البعيدة صاحبة الطوائف الدينية الكثيرة، فما زال هناك إعداد يحتاج إلى رجالٍ أصحاب ولاءٍ كامل للخوميني ونظامه، ومِن ثَم تواصل الخوميني مع الرجلين اللذين يحملان الفكر الاثني عشري، واللذين يؤمنان بمبدأ ولاية الفقيه الذي أتى بالخوميني إلى الحكم، وهذان الرجلان هما عباس الموسوي وحسن نصر الله. ومن هنا بدأ الدعم الإيراني المباشر لهما؛ لكن ما زالت قيادة أمل في يد نبيه بري صاحب التوجُّه العلماني.
وفي عام 1981م عُقد المؤتمر الرابع لحركة أمل ليضع حدًّا للنزاعات الداخلية فيه، والتي يرمي كلُّ فريق فيها إلى السيطرة على الجنوب الشيعي، وانتهى المؤتمر بقرار استمرار نبيه بري في قيادة أمل، بينما أصبح عباس الموسوي نائبًا له، وهي خطوة مهمَّة للسيطرة على الأمور في جنوب لبنان.
الاجتياح الصهيوني والموقف الشيعي
لكن في عام 1982م، وتحديدًا في 6 يونيو من هذا العام حدث ما غيَّر من ترتيبات كل فريق؛ إذ فُوجئ الجميع بالاجتياح الصهيوني للجنوب اللبناني بكامله، بل والوصول إلى بيروت وحصارها بغية طرد ياسر عرفات وقيادات فتح والميليشيات الفلسطينية المسلحة من جنوب لبنان إلى خارجها، وكان الاتفاق واضحًا بين الجيش الصهيوني والنصارى الموارنة على إخراج الفلسطينيين الذين أصبحوا يشكِّلون قوة ضاغطة في المجتمع اللبناني، وحدثت مذابح كثيرة للفلسطينيين كان من أهمها مذبحة صابرا وشاتيلا، حيث قُتل من الفلسطينيين ثلاثة آلاف، ونجح الصهاينة -بالاشتراك مع النصارى الموارنة- في إخراج معظم الفلسطينيين من الجنوب اللبناني ومن بيروت.
كان هذا الموقف على هوى الشيعة، إذ إنهم كانوا يطالبون منذ زمن بإخراج الفلسطينيين من الجنوب تمهيدًا لإقامة دولتهم هناك، لكن الكيان الصهيوني لم يَعُد إلى قواعده بعد إخراج الفلسطينيين، بل ظل جاثمًا على صدر لبنان، قائمًا باحتلال عسكري لكل جنوب لبنان.
حطَّم هذا الأمر آمال الشيعة في إقامة دولتهم، خاصةً أنهم منقسمون على أنفسهم ما بين علماني وديني، فقرر المتدينون الانفصال عن حركة أمل، والتواصل مع قادة إيران لأخذ دعمهم. وبالفعل كوَّنوا لجنة من تسعة أشخاص سافرت إلى طهران، والتقت بالخوميني، وأعلنوا له إيمانهم بمبدأ ولاية الفقيه، ومِن ثَم فالخوميني هو الفقيه الذي سيلي أمور الشيعة في لبنان، وأقر الخوميني هذه المجموعة، وعادت إلى لبنان؛ لتنفصل فعليًّا عن حركة أمل، مكوِّنةً ما عُرف في هذه الفترة باسم حركة أمل الإسلامية، وذلك تحت قيادة عباس الموسوي.
وقد شاركت إيران بقوة مع هذا الكيان الجديد، بل إنها أرسلت إلى سوريا ومنها إلى البقاع في لبنان 1500 من الحرس الثوري الإيراني؛ لتدريب حركة أمل الإسلامية على السلاح، ولإمدادها بما يكفيها من طاقات مالية وعسكرية. وبذلك حصلت هذه الحركة الوليدة على تأييد دولتيْن كبيرتين في المنطقة هما إيران وسوريا، بينما ظلت سوريا على دعمها لحركة أمل القومية في نفس الوقت.
تأسيس حزب الله والسيطرة على الجنوب
¥