تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكان الجهني إلي جانب الرعي، استنادًا إلي الدكتور عبدالمنعم ماجد في كتابه «التاريخ السياسي للدولة العربية» يعيش علي حماية التجارة التي تمر بصحرائه، ومن أمثلة ذلك ان سوق الحيرة كانت تقع شمال الكوفة، وكانت مسكنًا لتجارة العرب، تخرج منها قوافل الفرس إلي عكاظ، كما ترد إليها قوافل قريش .. وهي ملتقي بضائع الشرق من الهند والسند القادمة من عمان إلي بلاد الشام، وكانت حراستها لقبائل قضاعة وتجارتها وافرة، كما كان الجهنيون يقومون بالدلالة لهذه القبائل، ونستطيع أن نستطرد إلي جوانب أخري، ومنها أن حياة الصحراء الشاقة، كثيرًا ما كانت تدفع الجهنيين إلي الغزو أو الإغارة علي الوديان أو الاعتداء علي القوافل .. وهذا النسق يشبه عن قرب ما ذكره الدكتور عبدالعزيز صالح في سياق حديثه عن ديار قضاعة الأولي في القرن الثامن ق. م، عندما أقامت قرب واحة تيماء ومنطقة الجوف الشمالي .. لترعي المصالح التجارية لقومها في شمال شبه الجزيرة، وعلي طرق القوافل المتجهة منها إلي الهلال الخصيب.

ولابد أن بعض أفراد جهينه قد مارسوا الزراعة، وقد هيأ لهم ذلك توطنهم في مناطق اشتهرت بخصبها وزروعها وأشجارها، كالتمور الجيدة والحبوب، وكان أكل الجهني شأنه شأن سائر عرب الجزيرة العربية، ما يتناسب مع بيئته مثل التمر واللبن، ومن كان غنيًا منهم يستخرج الخمر االمصنوع من التمر، بيد أن المجاعة وانقطاع المطر، كانت تهدد العربي وأسرته في كل وقت، بحيث إنها كانت تدفعه أحيانًا إلي أكل نحاتة قرون الخروف وأظلافها، وأن يفتح عرقًا في جمل ليشرب دمه، وأحيانًا أخري إذا زاد الجوع ربط حجرًا علي بطنه.

ويبدو أن بعض أفراد جهينه من أهل الحضر قد اشتغلوا بالصناعة، ومعلوماتنا في هذا الصدد مستمدة من «الأب لويس شيخو» في كتابه «النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية» إذ يذكر أن أكثر ما نري صناعة النسيج والحياكة في بلاد قضاعة، وكانوا يبيعون بعضها من أقباط مصر .. فقد قال الثعالبي في كتابه «لطائف المعارف» أن أبناء اليمن كانوا يعيرون بالحياكة، وكان المثل يضرب برباط اليمن وببرود اليمن، وربما كانوا يخططونها، وكانوا يعملون الرحال وينقشونها ويحسنون صنعها، ومن منسوجاتهم أيضًا الطنافس العقبرية التي كان ينصعها بنو قضاعة.

ومما لا يجوز أن يغفل في هذا المقام .. استغلال أفراد جهينه موارد أوطانهم من الثروة المعدنية كالحديد والذهب والفضة .. فامتلكوا بعض المناجم واستغلوها أحسن استغلال .. وكان يهود يثرب يبتاعون منهم موارد خامات مناجمهم .. ويستخدمونها في صناعة الحلي والسلاح.

لماذا عند جهينه الخبر اليقين؟:

إذا كان أشهر ما اشتهر به العرب قبل الإسلام هو شعرهم .. فإن أمثالهم كانت بمثابة المرآة التي تعكس حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، ومن أشهر تلك الأمثال التي ذاعت قبل الإسلام وماتزال سارية حتي يومنا هذا مثل: «عند جهينه الخبر اليقين» .. وحكاية هذا المثل أن رجلاً يدعي حصين بن عمرو بن كلاب خرج يطلب فرصة له، فاجتمع برجل من جهينه يقال له «الأخنس» فنزلا في بعض منازلهما، وتعاقدا أن لا يلقيا أحدًا إلا سلباه وكلاهما فاتك، فلقيا رجلاً فسلباه كل ما معه فقال لهما: هل لكما أن تردا عليَّ بعض ما أخذتاه مني وأدلكما علي مغنم .. فقالا نعم، فقال لهما هذا لخمي قدم من بعض الملوك بمغنم كثير وهو خلفي بموضع كذا، فقبلا منه وردا عليه بعض ماله، ثم طلبا اللخمي فوجداه نازلاً في ظل شجرة وأمامه طعامه وشرابه فحيياه وحياهما وعرض عليهما الطعام، فنزلا وأكلا وشربا معه «أي مع اللخمي» ثم إن الأخنس ذهب لبعض شأنه، فاغتنم حصين غياب صاحبه فقام وضرب اللخمي بسيفه، فلما رجع الأخنس وجد سيف صاحبه مسلولاً، ووجد اللخمي يتشحط في دمه، فسل سيفه وقال لحصين ويحك قتلت رجلاً تحرمنا بطعامه وشرابه، فقال حصين اقعد يا أخا جهينه، فلهذا وشبهه خرجنا، ثم إن الأخنس الجهني شغل صاحبه بشيء ثم وثب عليه فقتله وأخذ متاعه ومتاع اللخمي، ثم انصرف إلي قومه راجعًا بماله، فمر ببطنين من قيس يقال لهما سمراج وأنمار» وإذا بامرأة تنشد الحصين في المواسم وتسأل عنه، فلا تجد من يخبرها بخبره .. فقال الأخنس حين أبصرها .. من أنت، قالت أنا صخرة امرأة الحصين الطفاني «ويقال إنها كانت أخته» فمضي وهو يقول:

وكم ضغيم ورد هموس ..... أبي شبلين مسكنه العرين

علوت بياض مفرقه بعضب ..... فأضحي في الفلاة له سكون

وأضحت عرسه ولها عليه ..... بعيد هُدوٍّ ليلتها رنين

كصخرة إذ تساءل في مراج ..... وأنمار وعلمها ظنون

تساءل عن حصين كل ركب ..... وعند جهينه الخبر اليقين

وثمة رأي آخر في المثل أورده القلقشندي في كتابه «قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان» عن الحمداني ومفاده ان جهينه كان يخدم ملكًا يمنيًا، وكان له وزير اسم «نجيدة» إذا غاب الملك خلفه علي محظية له، فتبعه جهينه يومًا من غير أن يشعر به، واختبأ حتي جلس الوزير في مجلس الملك، ولبس ثيابه وعليه السكر فغني:

إذا غاب المليك خلوت ليلي ..... أضاجع خودة ليلي الطويلا

فقام جهينه فقتل الوزير ودفن رأسه تحت وسادة الملك، فلما حضر الملك فقد الوزير فسأل عنه فلم يقف له علي خبر، حتي سكر جهينه ليلة عنده فأنشده:

تساءل عن نجيدة كل ركب ..... وعند جهنية الخبر اليقين

فسأله الملك فأخبره الخبر، فقر به وأحسن جزاءه، وقيل أمرَّه علي بلاد كثيرة.

وهكذا يمكننا أن نخلص إلي أنه إذا كان التاريخ القديم البعيد لجهينه، لم يكتب ولم يدون بعد، بسبب نقص الدراسات والبحوث الطبيعية والأثرية التي تعتبر المصدر الصحيح الوحيد لما يمكن ان يحمد عليه هذا التاريخ، فإن المجهودات الأولية من هذه الدراسات علي قلتها، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك عراقة تاريخ هذه القبيلة .. وصحة الكثير مما جاء عن جذورها علي ألسنة النسابين والمؤرخين وعلماء الآثار.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير