كنت أزوره في مرضه بين الحين والحين، ومع أن المرض أعجزه وأقعده إلاّ أنك إذا زرته لقيته يقابلك ببشاشة وجه، وابتسامة عريضة، ومع ذلك كله كلمات طيبة تفيض بالمودة والمحبة.
وخرجنا من الكويت، واستقر بنا المقام في عمان، وحاول أن يعمل في إحدى كليات الشريعة، ولكنه بعد أن أُسند إليه التدريس في بعض المواد، وجد أنه لا يستطيع أن يعطي المواد حقها بالسرعة الكافية؛ لقد أصبح التأليف والكتابة أحب إليه من التدريس الجامعي بما فيه من لقاءات واجتماعات، وتصحيح للأوراق؛ فأعرض عن العمل في هذا المجال.
واستمر يعمل في مجال التأليف، والتدريس على طريقة الشيوخ، خاصة في علم أصول الفقه، وكان كل همِّه أن يفقّه طلابه فيما يدرس لهم، بعيداً عن الامتحانات المنهجية، التي تقتضي التصويب والتصحيح على المنهج الجامعي.
لقد كانت صحة أخي محمد عبر سنوات عمره طيبة جيدة، ولم يكن يعاني من أمراض مزمنة، حتى أصابه عوار في رأسه، وقد انتهت البحوث التي أُجريت له عن وجود تدرّنات في دماغه، وانتهت بإجراء عملية استمرت عشر ساعات استُؤصلت من دماغه عدة تدرنات، ولم تؤثر هذه العملية على قواه العقلية، ولا على علمه، ولكنها أثرت على الجانب الأيسر من جسده، وكان يمشي بشيء من الصعوبة، ولكنه وقع أكثر من مرة، وقد أعجزه وقوعه وانكسار إحدى رجليه عن القدرة على السير، وما زال المرض يعمل عمله فيه حتى أفقده القدرة على النهوض.
فَقَد قدرته على السير، وضعف نظره في إحدى عينيه، ولكن بقي نظره صالحاً للرؤية والمطالعة والكتابة، وبقيت يده اليمنى تعمل جيداً.
لقد كان صابراً محتسباً في مرضه، وقد زرته في مرضه الأخير، فوجدته يدعو ويستغيث بالله ويناديه، ووجدته يكثر التأوّه، ووجدت حفيده الذي درس عليه في دراساته العليا يحاول أن يمنعه من التأوّه، فقال له: إن هذا التأوّه يخفف الألم الذي يشعر به، فقلت لحفيده: لقد كان خليل الرحمن نبي الله إبراهيم أوّاهاً حليماً (إن إبراهيم لأوّاه حليم). فلما سمعني أتلو الآية استنار وجهه، وقال لحفيده: هذا نبي الله إبراهيم -عليه السلام- كان أوّاهاً!!
أقعد المرض جسده، لكن لم يتوقف علمه ولا عطاؤه، فبقي يفتي ويجيب عن الأسئلة التي تُوجَّه إليه عبر الهاتف، وبقيت صلته بالكتاب، يقرأ ما يصل إليه من كتب، وفي زيارة قريبة له منذ شهر أو شهر ونصف رأيته فرحاً متهللاً، فقد ذهب إليه أحد أبنائي بكتاب صدر لي قريباً أوردت فيه صفحات من حياتي، فوجدته قد قرأه قراءة كاملة، وعدَّد لي بعض ما أعجبه في الكتاب، ولم يورد عليَّ في الكتاب إلاّ قضية واحدة، وعدته بالنظر فيها عندما أعيد النظر في الكتاب.
ولم يتوقف عند حدود قراءة بعض الكتب، بل جاوزه إلى التأليف في مرضه، فكتب عدة كتب، وكان أحد أحفاده من إحدى بناته يدرس في الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه، فكان يطيل الجلوس معه، ويشاوره فيما يكتب، وفيما يخطط له، ولم يُتوفَّ حتى أتمَّ حفيده رسالة الدكتوراه، وكانت رسالة موفقة حظيت بمناقشة علمية مسدّدة.
لقد صحبت أخي وشيخي محمداً في دراسته العلمية في الدراسات العليا، فسار فيها بسرعة فائقة، وتأخرت عنه سنوات؛ لقد كان جاداً فيما يأخذ نفسه به، وقد حظيت رسالة الدكتوراه في أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- باحترام لجنة المناقشة، وأصبحت هذه الرسالة إحدى المراجع العلمية في أبها.
وعندما افتتحت الموسوعة الفقهية الكويتية أبوابها التحق بها، وأصبح خبيراً من خبرائها، وكانت فكرة الموسوعة واضحة في ذهنه، فقدم ثماراً طيبة من إنتاجه، وقد كان سعيداً في عمله الذي يقوم به، وكان موضع احترام وتقدير من قبل العاملين في وزارة الأوقاف.
وهُدي إلى تأليف تفسير مختصر للقرآن الكريم، اختصره من كتاب (فتح القدير) للشوكاني، وعندما أوشك على الانتهاء منه، كانت وزارة الأوقاف الكويتية تبحث عن مثل هذا التفسير، فلما أعلمهم بتفسيره الذي أوشك على الاكتمال سارعوا إلى طبعه بمجرد إكماله له، وقد قُدّر لهذا التفسير القبول؛ فانتشر في بقاع الأرض، وأقبل عليه الناس إقبالاً عظيماً، وهو المسمى بـ"زبدة التفسير".
لم يُقدّر لي أن أكون إلى جنبه وهو يغادر الحياة، ولكنني علمت ممن نقل لي كيف فارق الحياة، قال من كان إلى جانبه: لقد سمعته يقرأ الفاتحة ثلاث مرات، ورأيته يسبح ويستغفر، ثم أسلم الروح.
رحمة الله عليك يا أبا عبد الله، ولقد –والله- كتبت هذه الصفحات على عجل، بعد أن طُلب مني أن أكتب هذه الكلمة، فكتبتها على البديهة، من غير تحضير ولا تخطيط .. لقد اتصل بي كثير من العلماء والفضلاء بعد إعلان وفاته معزين ومثنين، وهكذا العلم رحم بين أهله. لقد رحل قبله كثير من شيوخه وأقرانه، ذهبوا إلى الله –تبارك وتعالى- وها هو يلحق بهم على إثرهم، وأسأل الله له ولهم الرحمة والمغفرة، وأسأل الله أن يلحقنا بهم غير فاتنين ولا مفتونين ولا مضيّعين، وجزى الله كل من أحسن إلينا بالاتصال و التعزية، أو الدعاء له بالمغفرة والرحمة؛ فالذي خرج من الدنيا إنما ينفعه من إخوانه دعاؤهم واستغفارهم له وصلاتهم عليه، والله هو الذي يكافئ المحسنين، ويجزل لهم الأجر والثواب.
أسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة، وأن يتقبله بقبول حسن، وأن يغفر له ذنبه، وأن يغسله بالماء والثلج والبرد، وأن يطهِّره من ذنوبه وخطاياه، وأن يلحقنا به غير فاتنين ولا مفتونين، ولا مضيّعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين
http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-43-122926.htm
¥