تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هارون الرشيد للخمر ممكن، و دليل ابن خلدون في دفعه عنه ضعيف.

و خامسا إن قوله بأن الرشيد و أجداده كانوا يتجنبون المذمومات في دينهم و دنياهم،و التخلق بالمحامد و أوصاف الكمال، هو قول ليس صحيحا على إطلاقه، فقد يصدق على بعض سلوكياتهم، أما عامتها فلا يصدق عليها بحال ,و الشواهد على ذلك كثيرة، منها إنهم من أجل الملك قتلوا بحق و بغير حق، و سفكوا الدماء،و هتكوا الأعراض، و نقضوا العهود، و ارتكبوا مجازر رهيبة، قُتل فيها خلق كثير لا يُحصيهم إلا الله تعالى [4]. و معروف عنهم-على ما يُروى- أنهم أعطوا الأمان للأمويين بالعهود و المواثيق، ثم لما جمعوهم نقضوها و قتلوهم شر قتلة [5].

و الشاهد الثاني هو أن العباسيين لما استولوا على الحكم بالقوة، توارثوه فيما بينهم، و هذا ليس سلوك من يتجنب المذمومات في دينه و دنياه، لأنهم أولا أخذوا الحكم بالقوة و لم يعطه لهم المسلمون. و ثانيا إنهم توارثوا الحكم و حرموا المسلمين من حقهم الشرعي في اختيار من يحكمهم، لمدة 524سنة، و هو حق أعطاه إياهم الشرع الحكيم. و ثالثا إنهم أداروا ظهورهم للعلويين الذين تعاونوا معهم،و قتلوا كثيرا منهم بحق و بغير حق.

و أما موقفه من المأمون، فقال مدافعا عنه: ((و أين هذا كله من حال المأمون المعروفة في دينه و علمه، و اقتفاء سنن الخلفاء الراشدين من آبائه،و أخذ بسير الخلفاء الأربعة أركان الملة، و مناظرته للعلماء و حفظه لحدود الله تعالى في صلواته و أحكامه، فكيف تصح عنه أحوال الفساق المستهزئين)) [6]. و قوله هذا غير صحيح في معظم جوانبه، و هو من مجازفاته الغريبة، و الشواهد الآتية تثبت ذلك قطعا.

أولها إن قوله بأن المأمون أخذ بسير الخلفاء الراشدين الأربعة،و تسميته لبعض أجداده بالخلفاء الراشدين، هو قول مبالغ فيه جدا، و لا يصدق عليه-أي المأمون- في أهم ما تميز به الخلفاء الراشدون، فهم وصلوا إلى الحكم بالشورى و البيعة و الاختيار، و أما العباسيون فوصلوا إليه بسفك الدماء، ثم توارثوه بدون اختيار من المسلمين و لا مشورة منهم، و فرضوا أنفسهم عليهم بالقوة؛ فدولتهم دولة ملك لا دولة خلافة، و أنما سميت خلافة مجازا و تجاوزا و تضليلا، بدليل أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- صحّ عنه أنه قال: ((اقتدوا بالذين من بعدي، أبو بكر و عمر))، و قال ((عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي))، و ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك ملكا)) [7]. فدولة بني العباس مُستثناة من الخلافة الراشدة الممدوحة المطلوب الاستنان بها، فهي إذن مذمومة. و كيف يكون المأمون على سنة الخلافة الراشدة،و قد أعلن جهارا نهارا أن أفضل الناس بعد النبي –صلى الله عليه وسلم-، هو علي ابن أبي طالب [8]، مخالفا بذلك النصوص الشرعية، و أقوال علي و غيره من الصحابة، و حقائق التاريخ الثابتة، و أقوال السلف، في أن أفضل الناس بعد رسول الله هو أبو بكر ثم عمر [9].

و الشاهد الثاني هو أ ابن خلدون مدح المأمون في علمه و مناظراته، و سكت عن انحرافاته الفكرية،و أعماله الخطيرة التي أثّرت سلبا على الحياة العلمية عند المسلمين، فقد كان معتزليا يقدم الشرع على العقل، و ينفي صفات الله تعالى، و ينكر تكلّمه، مخالفا بذلك صريح القرآن الكريم و السنة النبوية،و ما كان عليه السلف الصالح [10]. و هو الذي أشرف على ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية، و صرف عليها أموالا طائلة من أموال الأمة، فترجم كثيرا من ضلالات و كفريات و انحرافات اليونان و الفرس و الهنود [11]، و لم يُفرق بين ما ينفع الأمة و ما يضرها، و ما يصح ترجمته و ما لا يصح، فكان عمله في عمومه كارثة على جوانب كثيرة من الحياة الفكرية عند المسلمين، ضرره أكثر من نفعه، فأحدث نزاعا مريرا بين علماء الإسلام، و الفلاسفة المشائين المسلمين، ما تزال آثاره السلبية قائمة إلي يومنا هذا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير