قصة التفريغ الثقافي .. أبو فهر محمود محمّد شاكر
ـ[العاصمي الجزائري]ــــــــ[25 - 03 - 10, 01:17 ص]ـ
ذيل الرسالة / قصة التفريغ الثقافي
ذيل الرسالة
والآن لم يبق إلا أن أضع بين يديك قصة التفريغ الثقافي الذي حتمت به كلماتي آنفا في رسالة في الطريق إلى ثقافتنا أنقلها من كتاب المتنبي ص 19 34 في التصدير الذي سميته لمحة من فساد حياتنا الأدبية وفيها شهادتان:
شهادتي أنا من موقعي بين أفراد جيلي إليه وهو جيل المدارس المفرغ من كل أصول ثقافة أمته وهو الجيل ال\ي تلقى صدمة التدهور الأولى حيث نشأ في دوامة من التحول الاجتماعي والثقافي والسياسي
وشهادة الدكتور طه حسين من موقع الأستاذية لهذا الجيل
فاقرأهما بتدبر وأناة حتى تلم بأطراف البلاء الذي حاق بي وبك وبأمتك العربيو الإسلامية وحتى لا تدخل تحت المعنى الذي قاله أبو عبادة البحتري:
ومن العجائب أعين مفتوحة .... وعقولهن تجول في الأحلام
= أحلام النهضة والتجديد والأصالة والمعاصرة والثقافة العالمية وأحلام أخرى كثيرة لا تنقضي!! أحلام جعلت صدمة التدهور مستمرة متمادية متفاقمة إلى هذه الساعة التي تقرأ فيها هذه الرسالة ولله الأمر من قبل ومن بعد
قلت: ومرت الأيام والليالي والسنون بين سنة 1928 وسنة 1936 وهي السنة التي كتبت فيها هذا الكتاب المتنبي وهمي مصروف أكثره إلى قضية الشعر الجاهلي وإلى طلب اليقين فيها لنفسي لا معارضة لأحد من الناس ومشت بي هذه القصة في رحلة طويلة شاقة ودخلت بي في دروب وعرة شائكة وكلما أوغلت انكشفت عني غشاوة من العمى وأحسست أني والجيل الذي أنا منه وهو جيل المدارس المصرية قد تم تفريغنا تفريغا يكاد يكون كاملا من ماضينا كله من علومه وآدابه وفنونه وتم أيضا هتك العلائق بيننا وبينه وصار ما كان في الماضي متكاملا متماسكا مزقا متفرقة مبعثرة تكاد تكون خالية عندنا من المعنى و من الدلالة ولأنه غير ممكن أن يظل الفارغ فارغا أبدا فقد تم ملؤ هذا الفراغ بجديد من العلوم والآداب والفنون بحيث لا تمت إلى هذا الماضي بسبب وإننا انستقبله استقبال الظاميء المحترق قطرات من الماء النمير المثلج
في خلال هذه الأعوام تبين لي أمر كان في غاية الوضوح عندي وهو قصة طويلة قد تعرضت لأطراف منها في بعض ما كتبت ولكني أذكرها هنا على وجه الإحتصار صار بينا عندي أننا نعيش في عالم منقسم انقساما سافرا: عالم القوة والغنى وعالم الضعف والفقر = أو عالم الغزاة الناهبين وعالم المستضعفين المنهوبين
كان عالم الغزاة الممثل في الحضارة الغربية يريد أن يحدث في عالم المستضعفين تحولا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا فهو صيد غزير يمد حضارتهم بكل أسباب القوة والعلو والغنى والسلطان والغلبة والطريق إلى هذا التحول عمل سياسي محض لا غاية له إلا إخضاع هذا العالم (المتخلف) إخضاعا تاما لحاجات العالم (المتحضر) التي لا تنفد ولسيطرته السياسية الكاملة أيضا ومع أن هذا العمل السياسي المحض المتشعب قد بدأ تنفيذه منذ زمن في أجزاء متفرقة من عالمنا إلا أنه بدأ عندنا في مصر قلب العالم الإسلامي و العربي مع الطلائع الأولى لعهد محمد علي بسيطرة القناصل الأروبية عليه وعلى دولته وعلى بناء هذه ... كلها بالمشورة والتوجيه ثم ارتفع إلى ذروته في عهد حفيده اسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي الخديوي حتى جاء الإحتلال الإنجليزي في سنة 1882 وبمجيئه سيطر الإنجليز سيطرة مباشرة على كل شيء وعلى التعليم خاصة إلى أن جاء (دنلوب) في (18 مارس 1897) ليضع للأمة نظام التعليم المدمّر الذي لا نزال نسير عليه مع الأسف إلى يومنا هذا.
كان التمهيد لهذا العهد طويلا متعدد الجوانب وكان قوامه إعداد جيل من (المبعوثين) يعودون من أوربة ليكونوا قادة هذا التحول الرفيق العميق ويراد منهم أن يؤسسوا قاعدة ثابتة لانطلاق التحوّل إلى غاية يراد لنا أن نبلغها على تمادي الأيام. وكان الغزاة يقنعون يومئذ من هؤلاء المبعوثين بأن يعودوا إلى بلادهم ببضعة أفكار يردّدونها ترديد الببغاوات تتضمّن الإعجاب المزهوّ ببعض نظاهر الحياة الأوربية مقرونا بنقد بعض مظاهر الحياة في بلادهم = وبأن يكاشفوا أمتهم بأنّ ما أعجبوا به هو سرّ قوّة الغزاة وغلبتهم وأن الذي عندنا هو سرّ ضعفنا وانهيارنا. وقد وجدت ذلك ظاهرا ممثلا أحسن تمثيل عند رفاعة ال طهطاوي
¥