تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولكن هذه الصورة لا تتم وحدها. في خلال التحوّل الإجتماعي الثقافيّ المتصاعد المتكاثر كان هناك جانب راكد مختنق لم يفرّغ هذا التفريغ ولكن ضرب عليه حصار مفزع وبيل مهين. هذا الجانب كان هو الوارث للماضي المتكامل المتماسك ولكنه كان يزداد على مرّ الأيّام تخلخلا وتفككا وحيرة وانطواء. يمثّل هذا الجانب جمهور المتعلمين المنتسبين إلى الأزهر ودار العلوم وأشباههما. كان أكبر همّ هذا الجانب في هذا اليمّ المتلاطم من حوله هو محاولة المحافظة على الماضي محافظة مّا ولكنّ قبضته كانت تسترخي شيئا فشيئا تحت الحصار وتحت القذائف المدمّرة التي يرمى بها والتي تزلزل نفوس أبنائه من قواعدها. وكان مطلوبا طلبا حثيثا أن تفتح أبواب هذا الحصن العتيق المنيع لتدخل عليه نفس العوامل التي أدّت إلى تفريغ (تلاميذ المدارس) من ماضيها وإلى تهتّك علائق ثقافته وعلومه وإلى ربطه بالحركة الأدبية الغازية المتصاعدة تحت ألوية (الجديد) و (التجديد) و (ثقافة العصر) وسائر الألفاظ المبهمة المغرية

وقد كان واحتاج شقّ الطريق إلى هذه الغاية إلى وسائل كثيرة متنوعة والذي يهمّني منها هو ما يتعلّق بأمر (السطو) لا غير. كان الذي يحول بينهم وبين بلوغ هذا الغرض هو أنّ جمهور المتعلمين المنتسبين إلى الأزهر ودار العلوم لم يكن لهم لسان غير العربية قلّما كان يعرف أحدهم غير هذا اللسان فعمدوا في مصر خاصة إلى إجافة باب يتيح لهم أن يطّلعوا = أو يصدموا على الأقل بما عند الحضارة الغازية من نظر ورأي في آداب العربية وعلومها وفنونها وتاريخها ودينها أيضا كان هذا موفورا في مؤلفات (المستشرقين) عامّة لأنّه هو كلّ عملهم في (الإستشراق) المرتبط كلّ الإرتباط بالإستعمار والتبشير أي تدمير الأمم المستضعفة وتحطيم ثقافتها وآثارها وماضيها كله. فكان ولابدّ إذن من نشر هذه الأفكار على نطاق واسع ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

انبرى لذلك رجال كثيرون في مصر والشام وغيرها لا يربطهم في أنفسهم بهذا الماضي إلاّ اللسان العربي وحده أما ضمائرهم فمرتبطة بشيء آخر. فكتبوا مقالات ونشروا كتبا في آداب العرب وعلومها وفنونها وتاريخها ودينها على قلّة معرفتهم بها معرفة تتيح لهم الكتابة ولكنها كانت معبّرة عن اتجاه (الإستشراق) لا غير.

فكانت كلّها (سطو) مجرّدا على آراء المستشرقين ومناهجهم في النظر مبثوثا في ثنايا كلّ ما يكتبون. وكذلك تيسّر لكل من لا يعرف غير العربية لسانا أن يجد على مدّ يده شيئا (جديدا) يقال عن ماضيه وبمناهج لم يألفها أيضا.

ولكن حال بين هذا الضرب من (السطو) وبين أن يكون شيئا عامّا مؤثرا تأثيرا نافذا في جمهور (المحافظين) الذين لا يعرفون غير العربية = أنهم رجال وفدوا إلى مصر مع استقرار الاحتلال الإنجليزي فيها (1892) وكانت الشبهة فيهم توجب الحذر منهم فأضعف الحذر أثر ما يكتبون في أكثر القراء من هذا الجمهور وإن كان لهم في جمهور (تلاميذ المدارس) المفرّغين من ماضيهم أثر بليغ. ومع ذلك فإن الهدف لم يذهب هدرا فإنه على الأقل فتح الباب ويسّر السبيل للساطين وجعل (السطو) المباشر أمرا مألوفا لا غبار عليه بل زاد فقرّب إلى الأذهان سبيل الإقناع بأنه ضرب من (التجديد) ومن متابعة (ثقافة العصر) ومناهج تفكيره في الدراسات الأدبية والتاريخية الخاصة يلغة العرب وتاريخهم وعلومهم وفنونهم ودينهم أيضا

ومعنى ذلك باختصار هو أنّه صار الآن ممكنا أن يصبح من الممكن ومن السهل اليسير أن يكون معنى (الجديد) و (التجديد) في دراسة آداب أمة ما وفي دراسة تاريخها: أن يعمد (المجدد) إلى اقتباس آراء وأفكار قد تولّى صياغتها من هو لصيق دحيل عليها وعلى لسانها لم ينشأ فيه وإنما تعلمه على كبر فهو لا يعلم مته إلاّ القليل ومن هو نابت في لسان آخر بآدابه وعلومه وفنونه وعقائده ومن هو محروم

بطبيعته من القدرة على تذوق آدابها تذوقا شاملا = والتذوق وحده عقدة العقد= ومن هو مسلوب كلّ إحساس بتاريخه كلّه فضلا عمّا يكنّه في سريرته من العداوة المتوارثة والبغضاء المتأججة ومن المصلحة المتجددة في تشويه صورتها تشويها متعمدا لأغراض (حضارية) = يا للعجب

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير