تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبمناهجه في التفكير كما صوّروا لنا ذلك من خلال ما يكتبونه وغاب عن الأساتذة الكبار أنّ الزمن الدوّار الذي يشيب الصغير ويفني الكبير هو الذي سيتولّى الفصل بينهم وبين أبنائهم الصغار الذين كاموا يتعلّمون اليوم على أيديهم.

والقصة تطول ومع ذلك فليس هذا مكان قصّها على وجهها إذا أنا أردت أن أقيّد ما كان كما شهدته فيما بين سنة 1928 وسنة 1936 بل إلى ما بعد ذلك إلى يومنا هذا أيضا. ويكفي أن أقول: إنّ جيلنا جيل المدارس المفرّغ كان في خلال ذلك قد كبر وانفلق عن فريقين: فريق قانع بما تجود به عليه أقلام الأساتذة الكبار من (تلخيص) و (تجديد) فهو لا يزال إليهم متطلّعا وبهم متعلّقا ثم لا يزيد = وفريق يسّر الله له السبيل إلى معرفة المنبع فرأى نفسه قادرا على أن يغترف من حيث اغترف أساتذته. لقد اطّع على أصول ما كانوا يلخّصونه وما كانوا (يجددون) به مكتوبا بلغته أو بلغاته على الأصحّ. وأحسّ أيضا أنّ (الأصل) الذي يقرؤه بلغته مضيء حيّ مكثف عميق الدلالة = وأن تلخيص الأساتذة وتجديدهم كاب لونه خامدة حياته متخلل قريب المتناول.

ومع هذا الذي أحسّ به فإنّه لا يدري يشعر بتفوّق هؤلاء الأساتذة الملخّصين المجدّدين عليه ولكنه لا يستطيع أن يجد تفسيرا لهذا التفوق مع أنّ تفسيره يسير هيّن. وذلك أنّ علائق الأساتذة بثقافة أمّتهم كانت علائق لم تمزّق كلّ التمزيق وبفضل هذه العلائق استطاعوا أن يعطوا تلخيصهم نفحة من سرّ أنفسهم يمتازون بها وأن يكونوا أقدر منهم على (التجديد) لأنّ ما عندهم كان يمكنهم من الإختيار ثم من نفي ما هو غث أو ساقط ومن إخفاء (السطو) إخفاء فيه ذرو من المعرفة. أمّا هم فقد فرّغوا تفريغا يكاد يكون تامّا من أصول ثقافتهم التي ينتمون إليها (بالوراثة) ولذلك فهم يحسّون في أنفسهم ما يشبه العجز إذا ما قارنوا بين أنفسهم وبين هؤلاء الأساتذة.

وهذا هو الموقف العصيب الذي كان فيه جيلنا يومئذ ثمّ استمرّت عليه الأجيال بعدنا وهي تشعر شعورا واضخا بتفوّق هذا الجيل من الأساتذة الكبار (الملخّصين) و (المجدّدين) مع أنّ الأمر كما قلت قائم في الحقيقة على (السطو) البيّن أو الخفي على أعمال ناس آخرين يكتبون في لغاتهم بألسنتهم ويعبّرون عن أنفسهم وعن حضارتهم وعن ثقافتهم = لا عن أنفسنا أوعن حضارتنا أو عن ثقافتنا نحن ..

ومع ذلك فإن جيلنا والأجيال التي تتابعت بعده لم ترد أن تكشف هذه الحقيقة لأنّهم إذا فعلوا ذلك كشفوا أمر أنفسهم لأنّهم لا يستطيعون شيئا آخر سوى منهج (التلخيص) و (التجديد) على السنّة التي سنّها لهم هؤلاء الأساتذة الكبار ولو فعلوا لما بقي لهم شيء يقولونه حين يرثون موقع الصدارة للتعليم والتثقيف بعد هؤلاء الأساتذة الكبار.

ولذلك فقد قنعوا بالوقوف تحت مظلّة (التجديد) و (عالمية الثقافة) و (الثقافة العالمية) و (الحضارة الإنسانية) وسائر هذه المبهمات التي أشرت إليها آنفا وتكاتموا هذه الحقيقة بينهم ثم كان الأمر بعد ذلك كما قيل في المثل (خلا لك الجوّ فبيضي واصفري) ..

ومع ذلك فأنا أحبّ أن أقرر هنا حقيقة أخرى تعين على توضيح هذه الصورة التي صوّرتها وكنت أنا أحد شهودها فصوّرتها فيما سلف. فالدكتور طه حسين وهو أحد هؤلاء الأساتذة الكبار سوف يشهد في سنة 1935 شهادته هو من موقعه هو أي من موقع الأستاذية ومن وجهة نظره هو ومن دوافعه هو إلى الإدلاء بهذه الشهادة.

ومن المعلوم أنّ الدكتور طه في سنة 1926 حين ألقى محاضراته (في الشعر الجاهلي) زعم أنّ له منهجا يدرّس به تراث العرب كلّه وسمّى هذا المذهب (مذهب الشكّ) فكان فيما قاله عن مذهبه إنّ هذا المذهب سوف: (يقلب العلم القديم رأسا على عقب وأخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئا كثيرا) [في الشعر الجاهلي ص:3]

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير