ثم انطلق في كتابه هذا مستخفا بكلّ شيء بلا حذر حتى قال: (والنتائج الملازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجدّدون عظيمة جليلة الخطر .. وحسبك أنّهم يشكّون فيما كان الناس يرونه يقينا وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنّه حقّ لا شكّ فيه. وليس حظ هذا المذهب منتهيا إلى هذا الحدّ بل هو يجاوزه إلى حدود أخرى أبعد منه مدى وأعظم أثرا. فهم قد ينتهون إلى تغيير التاريخ أو ما اتّفق الناس على أنّه تاريخ وهم قد ينتهون إلى تغيير التاريخ أو ما اتفق الناس على أنّه تاريخ وهم قد ينتهون إلى الشكّ في أشياء لم يكن يباح الشك فيها .. ) [في الشعر الجاهلي: 6]
والإستخفاف الذي بنى عليه الدكتور طه كتابه معروف أمّا الذي كان يقوله في أحاديثه بين طلبته فكان استخفافه عندئذ يتجاوز حدّه حتى يبلغ بنا إلى الإستهزاء المحضي بأقوال السلف. وأمّا الذي كان يدور بين طلبته الصغار (المفرّغين) من ثقافتهم كما قلت فكان شيئا لا يكاد يوصف لأنّه كان استخفاف جاهل واستهزاء خاو يردد ما يقوله الدكتور لا يعصمه ما كان يعصم الدكتور طه من بعض العلم المتصل بهذه الثقافة. وعلى مرّ الأيام كانت العاقبة وحيمة جدا. كبر الصّغار الذين تأثّروا بما قاله في سنة 1926 فقد فطمتهم السنّ وفطمتهم معرفة جديدة حازوها وتنكّروا أو كادوا للثدي الذي كان يرضعهم. وخرجت (الطلائع) تدفعها الحميّة وطلب الصّدارة في ميدان (التثقيف) و (التجديد) وبدا كأنّهم جاؤوا يزاحمون الأساتذة الكبار في مواقع الأستاذية. وساروا على نفس النّهج الذيمهّدوه لهم من (التلخيص) لفكر (الحضارة الحديثة) = أي الحضارة الأروبية = والذي هو في حقيقته سطوّ مجرّد ولكنّهم لم يسيروا سيرة الأساتذة في معالجة (القديم) حتّى يخيّل للناس أنّه إحياء للقديم وتجديد له بل كان الغالب على أكثرهم هو (رفض القديم) والإعراض عنه والإنتقاص له والإستخفاف به. وعندئذ أحسّ الدكتور طه نفسه بالخطر وهو هو الذي أضاء لهم الطريق بالضّجة التي أحدثها كتابه (في الشعر الجاهلي) ..
كان إحساس الدكتور بهذا الخطر الذي تولّى هو كبر إحداثه ظاهر جدا ففي يناير سنة 1926 = بعد تسع سنوات من صدور كتابه: (في الشعر الجاهلي) سنة 1926 = بدأ ينشر في جريدة الجهاد مقالات انتهى منها في 22 مايو سنة 1935 وكان محصّلها رجوعا صريحا عن إدّعائه الأوّل في سنة 1926 الذي أعلنه في أوّل كتابه وهي قوله: (إنّ الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء وإنّما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام فهي إسلامية تمثّل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثّل حياة الجاهليين وأكاد لا أشك في أنّ ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدلّ على شيء) [في الشعر الجاهلي ص: 7]
بدأ الدكتور هذه المقالات بمقالة عنوانها: (أثناء قراءة الشعر القديم) وأدار الحديث بينه وبين صاحب له وهو يحاوره: (إنّكم لتشقّون علينا حين تكلّفوننا قراءة شعركم القديم هذا وتلحّون علينا فيه وتعيبوننا بالإعراض عنه والتقصير في درسه وحفظه وتذوّقه لأنّكم تنكرون الزمن إنكارا وتلغونه إلغاء وتحسبون أننا نعيش الآن في القرن الأوّل قبل الهجرة أو بعدها ... ) إلى آخر ما صوّر به الدكتور حقيقة إحساسه بآراء من يحيطون به من جيلنا الذي بلغ الفطام واستقلّ.
ثمّ قال بعد ذلك (ص: 9 من حديث الأربعاء ج: 1): (وقد تحدّث إليّ المتحدّثون بأنّ أمثال صاحبي هذا قد أخذوا يكثرون ويظهر أنهم سيكثرون كلّما تقدّمت الأيام) وصدق ظن الدكتور فقد كان ذلك وكان ما هو أبشع منه ..
وسأحاول هنا أن ألخّص ما قاله الدكتور طه بألفاظه هو لا بألفاظي لأنها شهادة أستاذ كبير يقول:
(والذين يظنون أن الحضارة الحديثة حملت إلى عقولنا
(خيرا خالصا يخطئون فقد حملت الحضارة الحديثة إلى عقولنا
(شرّا غير قليل ... فكانت الحضارة مصدر جمود
(وجهل كما كان التعصب للقديم مصدر جحود وجهل
(هذا الشّاب أو هذا الشيخ الذي أقبل من أوربة
(يحمل الدرجات الجامعية ويحسن الرطانة بإحدى اللغات
(الأجنبية ... يجلس إليك وإلى غيرك منتفخا متنفّشا
(مؤمنا بنفسه وبدرجاته وبعلمه الحديث أو أدبه الحديث
(ثم يتحدّث إليك كأنّه ينطق بوحي أبولون. فيعلن إليك
(في حزم وجزم أن أمر (القديم) قد انقضى وأن الناس
¥