الشرق. و إذا استثنينا ملاحظة سأقدِّمها لاحقا عن تسامح الإسلام لدى " مادول " ـ هذا القطب الذي سيلعب دورا كبيرا في نشر الماسونية في الجزائر ـ يبدو واضحا عبر جميع هذه النصوص أن الخطاب الماسوني يرتكز بشكل مطلق على مفهوم ذلك العصر أي نظرة الغرب إلى الإسلام من " كينه" Quinet إلى " رنان" Renan ، مرورا بـ"سيلفتسر دي ساسي" De sacy ؛ و هو مفهمو ليس مستقلا أبدا، و يقابل " الجهل " و " الجريمة" و " التعصب" و " البربرية" " بمشعل الحقيقة" و هكذا فما من جديد تحت الشمس.
لا يُستثنى "الماسونيون الأحرار" من القاعدة و هم يعيدون هذا الخطاب بعينه حتى عندما يتعلق الأمر بنغم يضيفونه للإشادة ببطلهم الجديد. و لأبين ذلك اخترت فيما يلي سردا تعظيميا لأحداث دمشق، مجرَّدة من سياقها، لأعطاء عبد القادر مجددا مكانا متميِّزا في التصور الشعبي، بينما السلطات الفرنسية ما تزال حذرة منه كما يبيِّن السرد التاريخي للوقائع.
(مميز التعظيم المَاسوني)
إنه متضمن في نشرة خاصة صادرة عن " شرق فرنسة الكبير" G.O.D.F ( تحت رقم 293، العام 1865، ص42)، و هو مكرر فيما بعد من قبل جميع المؤلفين اللاحقين؛ من هذه الوثيقة أنطلق إذا، مع تصحيح بعض الأخطاء و خاصة تلك التي تعود إلى الترجمة عن رسائل أصلية.
((- توقفوا، فما زال أمامكم الوقت، و إذا لم تستمعوا إليّ فهذا يعني أن الله لم يمنحكم العقل و ما أنتم إلا بهائم لا تتحرك إلا عند مرأى العشب و الماء. صرخ المتجمهرون بغيظ كصرخة الرومان سابقا في الحلبات: المسيحيون ! المسيحيون! سلمنا المسيحيين، الكفرة، و إلا سنشملك بالعقوبة ذاتها و نلحقك بأخوتك.
- أجاب عبد القادر و عيناه تبرقان بالشرر: لن تصلوا إلى المسيحيين مادام واحد من جنودي البواسل على قيد الحياة. إنهم في حماي، يا قتلة النساء و الأطفال! و أبناء المعصية. جربوا إذًا أن تنتزعوا واحداً من هؤلاء المسيحيين الذين ألجأتهم إليّ و أعدكم بأنكم سترون يومًا رهيبا، لأنكم ستتعلمون كيف يتقن جنود عبد القادر استعمال البارود.
- ثم التفت نحو مرافقه الأمين "قره محمد"، قائلاً:
- قرة، إليّ بحصاني و سلاحي، و أنتم يا رفاقي المغاربة، فلتبتهج قلوبكم، و الله على ما أقول شهيد، سنقاتل من أجل قضية بمثل قدسية القضية التي قاتلنا من أجلها سوية في السابق.
صرخة الحرب هذه كانت نهاية الصراع، و ستبقى منقوشة في ذاكرة كل مُعترف بالجميل في العالم المتمدِّن، فقد أحدثت لدى الجميع رجَّة انفعال حقيقية، لأنها كشفت، وحدها فقط، عن قدرة العواطف الماسونية التي تعمر روح أخينا الشهير.
نعم! كان ماسونيا مجيدا هذا الذي يسمي، دون تمييز بين الأجناس و الأديان، جميع البشر أخوته، و كتن مستعدا بذل دمه من أجلهم.))
هذا النص سيستخدم أساسا لجميع النصوص عن هذا الحدث لأكثر من مئة سنة: ففي عددنا الأخير (ز هو يعود إلى مقال في مجلة العالم الماسوني، العام 1865، ص228) و بخصوص فكاهة أطلقتها صحيفة فرنسة La gazette de France ذكرنا أن الأخ عبد القادر قد انتسب في الاسكندرية (مصر) إلى " محفل هنري الرابع" شرق باريس. إنما "محفل الأهرام" تمّ انتسابه بتاريخ 18 حيزران ـ جوان 1864. لكن ما جهلته أو تظاهرت بجهله صحيفة فرنسة، التي تتهمنا بأننا أعداء المذهب الكاثوليكي، رغم احترامنا الأديان و المذاهب، هو أن الأمير الشهير، المتشيّع المتحمس للقرآن، كما وصفته الصحيفة، قد قُبل في الماسونية عقب تصرفه الرائع خلال مذابح سورية حيث أنقذ اثني عشر ألف و خمسمئة مسيحي من أيدي المتعصبين؛ و أن مؤسستنا لم تحرص على اعتباره من أتباعها إلا لأنه ظهر وسط هذه المشاهد من المجازر و الدماء، و هو من سلالة الرسول صلى الله عليه و سلم، ليس كممثل متزمت لشيعة و إنما كنصير لمبادئ الأخلاق المستقلة عن كل فكرة فوق الطبيعة، و هذا ما هو، بالاستباق عمل ماسوني رئيس.
¥