روى عدد من أصحاب التفاسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: آية لا يسألني الناس عنها! لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها؟ فقيل: وما هي؟ قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} لما أنزلت شق على كفار قريش، وقالوا: شتم آلهتنا، وأتوا ابن الزبعري وأخبروه، فقال: لو حضرته لرددت عليه. قالوا: وما كنت تقول؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى، واليهود تعبد عزيرًا، أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته، ورأوا أن محمدًا قد خُصم، فأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} وفيه نزل قوله تعالى: {ولما ضُرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون} يعني: ابن الزبعري.
وعن ابن عباس أيضًا قال: لما نزلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} قال المشركون: فالملائكة، وعزير، وعيسى، يُعبدون من دون الله، فنزلت: {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها} (الأنبياء:99) الآلهة التي يعبدون.
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: يا معشر قريش، لا خير في أحد يُعبد من دون، قالوا: أليس تزعم أن عيسى كان عبدًا نبيًا، وعبدًا صالحًا، فإن كان كما تزعم، فقد كان يُعبد من دون الله! فأنزل الله تعالى: {ولما ضُرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصِدون} أي: يضجون، كضجيج الإبل عند حمل الأثقال.
وفي تفسير ابن كثير عن ابن عباس قال: جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} فقال ابن الزبعري: قد عُبدت الشمس، والقمر، والملائكة، وعزير، وعيسى ابن مريم، أَكُلُّ هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنزل قوله تعالى: {ولما ضُرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون} ثم نزلت: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} قال ابن كثير: رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه "الأحاديث المختارة".
وعن مجاهد قال: إن قريشًا قالت إن محمدًا يريد أن نعبده كما عَبَدَ قوم عيسى عيسى، فأنزل الله هذه الآية.
وذكر ابن إسحاق رحمه الله في "سيرته" قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - يومًا مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المسجد غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، وتلا عليه وعليهم: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون * لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون} (الأنبياء:98 - 100) ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزبعري حتى جلس معهم، فقال الوليد بن المغيرة لـ عبد الله بن الزبعري: والله ما قام النضر بن الحارث لـ ابن عبد المطلب آنفًا ولا قعد، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعري: أَمَا والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدًا، أَكُلُّ ما يُعبد من دون الله في جهنم مع من عَبَدَه؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرًا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كل من أحب أن يُعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشيطان، ومن أمرهم بعبادته} وأنزل الله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} أي: عيسى، وعُزير، ومن عبدوا من الأحبار والرهبان، الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابًا من دون الله، ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة، وأنهم بنات الله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا سبحانه بل عباد مكرمون} (الأنبياء:26) إلى قوله: {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} (الأنبياء:29) ونزل فيما ذُكر من أمر عيسى وأنه يُعبد من دون الله، وعَجَبِ الوليد ومَن حضره من حجته وخصومته: {ولما ضُرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل * ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون * وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون} (الزخرف:57 - 61).
وقد قال أكثر المفسرين: إن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزعبري مع النبي صلى الله عليه وسلم، لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}.
ثم قال أهل العلم: وهذا الذي قاله ابن الزبعري خطأ كبير، لأن الآية إنما نزلت خطابًا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعًا وتوبيخًا لعابديها، ولهذا قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} فكيف يورد على هذا المسيح وعزير ونحوهما ممن له عمل صالح، ولم يرضَ بعبادة من عَبَدَه!! ".
ولا يخفاك - أخي الكريم - أن ما قاله ابن الزبعري مندفع من أصله وفصله، وباطل في جملته وتفصيله؛ وقد قال كثير من أهل العلم: ولا يدخل في هذه الآية عيسى، وعزير، والملائكة؛ لأن {ما} في الآية لمن لا يعقل، ولو أراد العموم لقال: ومَن تعبدون.
قال الزجاج: ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم؛ وهم كانوا يعبدون الأصنام وما شابهها؛ لذلك جاءت الآية بلفظ: {وما تعبدون} و (ما) بلسان العرب لما لا يعقل.
وقد ذكر ابن كثير في "تفسيره" أن عبد الله بن الزبعري قد أسلم بعد ذلك، وكان من الشعراء المشهورين.
¥