رحت أتجرَّعُ الكأس على مَهَلْ، لأنها كانت أكبرَ منْ أنْ تُساغ بِجُرعةٍ واحدة.
الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، والليلة ليلة جمعة، و هي ليلة السابع و العشرين من شهر رمضان لعام (1411) هـ. ألفٍ وأربعمائةٍ وإحدى عشرَ للهجرة - الموافق: لليوم الرابع عشر من شهر نيسان لعام (1991) م. ألفٍ ووتسعِ مائة وواحدٍ وتسعينَ للميلاد.
إنا لله و إنا إليه راجعون
رحمك الله أيها الوالدُ الحبيب! ...
فما رأيتك هادئاً مطمئناً كهدأة نفسك و اطمئنانِك آخرَ أيامك ...
وبهدأة جسدك أيها الحبيب، تفجَّرت صدورمن ضمّهم قلبك الكبيرآهاتٍ ونشيجٍ وانهالتِ بالدموعِ المآقي والعيون.
لقد فقدْنا الصَّدْرَ الذي فيه وحده لِينُ الحياة، لأن فيه قلبكَ و روحَكَ أيُّها الحبيبُ الفَقيدْ.
و حانت اللحظة التي يَختطفُ فيها فمُ الأرض تاريخاً في جسد إنسان، و مشى الناس لينتهوا إلى آخر الطريق، و مشيت أنا لأنتهي إلى آخر مصيبتي ... لقد أدركتُ آنذاك أن كنزاً حقيقياً أمامنا ماثلٌ سيهالُ عليه التراب بعد لحظات ... هاهنا سَتُخْفي الأرض نجماً تألق، و تاريخاً سطر صفحاتَه جهادٌ نبيل، و عملٌ مضيئ، و انتهى الأمر في هنيهةٍ من الدهر لم تكن عندي من الدهر.
و لكأني حين أنظر إلى تلك الجموع العظيمة في ذلك الميدان الفسيح في ذلكم الموقف الحزين الرهيب أشعر و يشعر كل من وقف ذلك الموقف أن تشييع الفقيد من قِبَلِ هذا الجمع الخليط، الذي ضم المدينة على اختلاف طبقاتهم و درجاتهم و ثقافاتهم و أعمارهم و درجة مسئولياتهم و مذاهبهم و اتجاهاتهم الفكريةِ و الدينيةِ و السياسيةِ و العلميةِ، إنما يمثل استفتاءً أجمع على رجل تمثلت به الرجولة و الاستقامة و الثبات و النزاهة و الإخلاص، فلم يُعرف يوماً بمداهنة أو نفاق، و لو أراد في حياته أن يلمع اسمُه في سنام منصب أو رفيع مكانة سلطوية، لما كان عليه في ذلك كثيرَ عناء، بل إن ذلك قد عرض عليه عرضاً في فرص كثيرة من حياته فما كان منه إلا الرفض و الاستعلاء على المنصب و السلطة و النفوذ و الغنى و الجاه، و في أوقات كان يعيش فيها عيش الفقراء.
و كان لسان حاله و مقاله يردد دوماً، مقالةَ إمامنا الشافعي رحمه الله:
أنا إن عشت لست أُعدم قوتاً و لئن مت لست أعدم قبراً.
همّتي همة الملوك و نفسي نفس حرٍّ ترى المذلة كُفراً.
والمقولةالأخرى وأظنها أيضاً للإمام الشافعي حيث يقول:
عليَّ ثيابٌ لو يُباع جميعها بفلسٍ لكان الفلس منهنَّ أكثرا.
وفيهنَّ نفسٌ لو تُقاس بمثلها نفوسُ الورى كانتْ أجلَّ وأكبرا.
لقد صغرت المدينة فاحتواها الطريق إلى المقبرة، و عظم الطريق حتى لكأنه المدينة ...
أسلمناه إلى قبره ليصبح وراء الزمن فلا نصل إليه، و ليبدأ في رحلة الموت هذه عمراً جديداً غير الذي كنا به نحياه ...
و عدنا من المقبرة إلى الدار لتتدفق جماعات الوافدين إلى حيث اعتادوا من قبل ... إلى غرفة الديوان، الباب مُشْرع، وهو كذلك دوماً للزوار و المستفتين، وأصحاب الحاجات، و لكنه اليوم مُشْرعٌ لاستقبال المودعين! ...
و لعمري، بتنا لا ندري أنحن المُعَزِّينَ أم نحن المُعَزَّوْن! ...
يرحمك الله أيها الرجل الذي قضى فمضى ...
همدت حياتك من جسدك لتحيا في تاريخك الذي هو أخراكَ اليوم.
وهبت للناس حياتك، زاهداً بما في أيديهم، تمدُّ لهم يد العون قدرتك، فأحبَّك الناس، و التفوا حولك.
كنت تستخدم السياسة و الحكمة في دعوتك للناس، تستميل البعيد عن الجادّة حتى ليشعر أنه من المقربين إليك دون غيره، و ما ذلك إلا لنظرة الحب و العطف و الرحمة التي تحملها لكل الناس تبغي لهم الهداية و الخير
كم تحملت عداوة الجهلاء، و سماجة الأجلاف، و سفاسف السخفاء، و بلادة الأغبياء؟!.
آه آه من هذه الدنيا! ... فما جمعت إلفين في روضة إلا ليفترقا.
و وُوريَ الميِّتُ الحَيّ ... ! ...
نعم ...... إنَّه الميِّت الحيّ ...
لقد مات كما يموت كل من جبِِلَّتُهُ الماءُ و الطين، فما كَتبَ الله لبشر الخُلد ...... " إنك ميت و إنهم ميتون "
و لكنه لا يزال في مآثره و أعماله حياً في قلوب من عرفوه و خبروه و عايشوه ...
الترجمة:
1 - ولادته: في إدلب عام 1907 ميلادي، والموافق: 1325 هجري.
¥