تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكان له في مقاومة ما ذُكر مواقف مشهودة، أذكر منها موقفاً مع القائمقام حيدر مردم باشا الذي افتُتحت في عهده أول سينما في إدلب وكانت صلته بهذا القائمقام تقوم على النصح له والإشفاق عليه، وكان يشيد بمدح والدي والثناء عليه، لِما رآه وعَلِمهُ من جُرأته في الحق وصدقهِ في النُصْح، وقد عرض على والدي استلام دائرة الأوقاف في إدلب فاشترط عليه لاستلامها، إطلاق يده في الإصلاح وصدِّ الأئمة والمشايخ، الذين سيكونون أول الثائرين. فأجاب بعجزِه عن ذلك، لأنَّ المستعمر هو المسيطر، لذلك رفض والدي استلامها.

وصادفَ أن عُرض في السينما على عهده فيلم سافل، فيه رجل يجرد حبيبته من لباسها تجرداً تدريجياً، حتى كان آخر ما نزعت من ثيابها سروالها وصاح الناس كلهم: (بَيَّنْ، بيّن، بيّن .... ) وعلا الهرج والمرج، وكان هو وزوجته وبنته ليلى حاضرين في هذا الفيلم.

كان والدي في زيارة الأستاذ الشيخ طاهر منلا الكيالي صبح جمعةٍ، ومشايخ إدلب من طلابه متحلقون حوله يروون له هذه القصة، قصة الفيلم السينمائي وأخذتْهم العصبية الدينية، وأرادوا أن يكتبوا خطبة حماسية يوزّعونها بأمر الأستاذ الكبير على خطباء المساجد الإحدى عشر، ولكن ضيق الوقت حملهم على أن يُقرّوا إرجاءها للجمعة المقبلة.

شاهدوالدي وسمع كل ما جرى دون أن يشاركهم الثورة والبحث والتقرير، ولأنّه كان موكلاً عن خطيب جامع الحمصي في ذلك اليوم، قرّر في نفسه أن يتناول الموضوع بعدما سمع تفصيله منهم، وخرج من زيارته إلى المسجد فارتجل خطاباً كان عظيم الوقع في نفوس المصلين، وما أن انتهت الصلاة حتى خرج صاحب السينما ومالك بنائها إلى المستشار الفرنسي يُعلمه بأن الشيخ محمد نافع شامي، هيّج الناس ضدَّ السينما ودعاهم إلى هدمها، فاتصل هذا بالقائمقام، واتصل هذا برئيس المخفر ليُحضر والدي، فأرسل هذا شرطياً أديباً مهذباً، خرج إليه، فرجاه مقابلة رئيس المخفر، فقال له قد حان الآن وقت راحتي وسأقابله بعد العصر، فألحّ في رجائه، مُحتجاً بأن رئيس المخفر يريد السفر، والأمر يقتضي مقابلته قبل أن يسافر، فلبس والدي ثيابه وأجابه إلى طلبه، ولما دخل المخفر استقبله رئيس المخفر السيد حبيب درويش و كان نصرانياً بكل تبجيلٍ و احترام، وقال له: إنَّ سيادة القائمقام يَطلب مقابلتك، حيث بلغهُ أنكَ دعوت الناس ضدّ السينما، (واستغرب والدي إشخاصه عن طريق الدرك).

ولما دخل والدي بيت القائمقام، ومعه رئيس المخفر، وجد مأمور الأوقاف الشيخ حسن بركات، أما القائمقام فكان في حرم الدار، وأُخبر بمجيئ الشيخ فخرج إليه مقطِّب الوجه، ودون أن يسلم عليه ويرحب به، بادره بالسؤال قائلاً:

على أي شيء خطبتَ اليوم ... فقال والدي: على السينما ومفاسدها، وإذا به يقول كنت احترمك وأقدّرك، ويُؤسفني أن تكون مُسيّراً بيد الغير، فقاطعه والدي، دون أن يسمح له بإكمال مقالته، قائلاً بغضب وكبرياء: وأنا كنت أحترمك، وأقدّرك ظناً مِنّي أنك ذكيّ تفهم الرجال، ولم يَخطر في بالي أن يَمضي عليك في إدلب سنتان، ولم تعرف من هو الشيخ نافع، لذلك اسمع أُعَرِّفك من هُو؟!!!

إنه رجل يصدر عن رويّة وتفكير، وهو يُسيّر غيرَه ولا يُسيرُهُ إلا عِلمه ودينه، والذي يَسير بوحيِ الغير، مع شديد الأسف هو أنت لا أنا، أنت الذي تؤمر فتُطيع.

واستشاط غيظاً فرفع صوته قائلاً، يوجد في حلب والشام مشايخ أعلمُ منك، فلم نسمع بواحدٍ قاوم السينما مثلك، فأجابه بصوت أرفع من صوته، وما يدريك أنهم لم يقاوموها، فقال: لما فُتحت السينما في مصر كان شيخ الأزهر أول من حضرها، هو وزوجته وأولاده فأجابه والدي، هذا خبر يَحتمل الصِّدق والكذب، وعلى فرض صحته فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما بلّغ شريعة ربه للناس، لم يقل لهم: إني تارك فيكم شيخ الأزهر فاتبعوه، وإنما قال: إني تارك أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي، ولما رأى نفسه قد ضَعُفَ باطله أمام الحقّ، قال بلغته العامية: أيْ طيّب الك حريتك فقال له طبعاً إلى أبعد مما تتصور، ونهض والدي وغادر بيته دون أن يحييه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير