3 - من الملفت للنظر في هذه الدولة اعتمادها الكبير واطمئنانها لغير المسلمين، يقول الأستاذ محمد كرد علي: "وكثر النصارى واليهود في خدمة الفاطميين على صورة مستغربة، وكانت أبداً سياستهم مع غير الدول الإسلامية لينة" (4) ومن أشهر وزرائهم يعقوب بن كليس وهو يهودي من أهل العراق، أسلم زمن كافور، وهرب إلى مقر الدولة العبيدية حيث التقى ب (المعز) الفاطمي وأطلعه على ما تمر به مصر من أزمات سياسية واقتصادية فوجد المعز الفرصة مناسبة لإرسال جيشه لاحتلال مصر.
ولعل ابن كلس اعتنق المذهب الإسماعيلي وهو ما يزال في مصر وعندما دخل المعز القاهرة أسند له تنظيم الإدارة والإشراف على الدعوة نفسها (5) وبعد هلاك ابن كلس عهد نزار (العزيز بالله) إلى عيسى بن نسطورس النصراني بتولي دواوين الدولة واستناب على الشام يهودياً يدعى (منشا بن إبراهيم القزاز) وهذا ما دعا أهل الفسطاط (مركز المقاومة السنية) للتعبير عن سخطهم فأقاموا امرأة (ربما تمثال بصورة امرأة) تعترض العزيز وتقدم له ورقة: "بالذي أعز اليهود بمنشا والنصارى بابن نسطورس وأذل المسلمين بك إلا نظرت في أمري ... " واستمرت هذه السياسة ففي عهد الوزير الأفضل بن بدر الجمالي كان رئيس ديوان التحقيق يوحنا بن أبي الليث، وكاتبه أبو الفضل بن الأسقف، وفي عهد الحافظ تولى الوزارة بهرام الأرمني الذي أحضر إخوته وأهله من بلاد الأرمن حتى صار منهم بالديار المصرية الآلاف واستطالوا على المسلمين وصار كل رئيس منهم يبني كنيسة (6)
وعندما احتل الصليبيون المدن الساحلية في بلاد الشام، رحب بهم الفاطميون وطلبوا منهم تقاسم بلاد الشام، على أن يكون الجزء الجنوبي للدولة الفاطمية ولكن الصليبيين رفضوا هذا العرض، والقصد هو إبعاد السلاجقة (السنة) عن بلاد الشام. (7) وفي عهد الظاهر (ابن الحاكم) وقعت هدنة مع البيزنطيين حتى يتفرغ لمواجهة العباسيين ثم السلاجقة.
هذه طبيعة الباطنية: "كان دأب معتنقي المذهب (الشيعة) التردد بين العجز والتقية من جهة وبين الظهور والانتهازية من جهة ثانية" (8).
4 - استعمال البطش الشديد مع المعارضين ونكث العهود:
في عام 407 هـ وصل إلى القاهرة فريق من الدعاة الفرس: الحسن بن حيدرة الفرغاني، حمزة بن أحمد اللباد، محمد بن إسماعيل أنوشتكين الدرزي، وأعلنوا تأليه الحاكم (أبو علي منصور) وحاولوا فرض هذه العقيدة على أهل الفسطاط، وقد ترك الحاكم هؤلاء الدعاة يقومون بالدعوة لهذه العقيدة، وتعاطف معهم، وكانت مقاومة من أهل الفسطاط وصدامات عنيفة، أدت إلى نهب هذه المدينة وحرقها من قبل الجنود وبناء على تحريض من الحاكم (9) وكان جده (المعز) قد أحرق كثيراً من أعيان مصر وأدبائها (10).
وكان جوهر الصقلي قد تعهد للمصريين قبل دخول (المعز) لمصر أن يجري المواريث على كتاب الله وسنة نبيه ولكن لم يمض إلا عام واحد حتى غير في المواريث (لا يرث مع البنت أخ ولا أخت ولا عم ولا جد ولا ابن أخ ولا ابن أخت ... ) (11) وسنرى في الصفحات القادمة ما فعلوه بعلماء أهل السنة في القيروان.
المقاومة السنية في القيروان
عندما أسفرت هذه الدولة عن وجهها الحقيقي مثل سب الصحابة (12) ومحاولة فرض عقيدتها على الناس، لم يرض فقهاء المالكية بهذا، ووقفوا في وجهها وكانت في البداية مقاومة (سلبية) حين قاطع أهل القيروان حضور الجُمَع التي يلعن فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان تمسك الشعب بالسنة في القيروان وغيرها من مدن الشمال الإفريقي تمسكاً شديداً لم تبرد حدته ولم تفتر قوته.
لم يكتف العلماء بهذه المقاطعة، بل جهروا بعقيدة أهل السنة فقد طلب عبيد الله علماء القيروان ليأخذ البيعة على مذهبه ومن هؤلاء العلماء: ابن التبان، وابن شبلون، وابن أبي زيد فقال ابن التبان لهؤلاء العلماء: أنا أمضي إليه وأكفيكم مؤونة الاجتماع به. أنا أمضي إليه وأبيع روحي في الله دونكم لأنكم إن أُتِي عليكم، وقع على الإسلام وهن واجتمع ابن التبان بعبيد الله واستطاع أن يفحمه في المناقشات التي دارت حول تفضيل علي على أبي بكر والكلام على عائشة رضي الله عنها، ومع ذلك فقد طلب عبيد الله من هذا العالم البيعة فقال له: شيخ له ستون سنة يعرف حلال الله وحرامه ويرد على اثنتين وسبعين فرقة يقال له هذا؟ لو نشرت بين اثنين ما فارقت مذهب مالك (13).
¥