هكذا كان الضحك عند رسول الله، وعند أصحابه، وعند أمهات المؤمنين، ضحك يدفع عن القلب الكآبة والحزن إلا أنه ليس لهوا صاخبا ولا عبثا وهزل وسخرية، فلا الكآبة مطلب، ولا كثرة الضحك مطلب، وإنما التوسط والاعتدال، فكثرة الضحك دليل على السفه وخفة العقل، فقد كان رسول الله يضحك ويمزح، ولكن لا يقول إلا صدقا، ولا ينطق إلا حقا، وكان يقول «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ» (18)
وقال «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» (19)
كان رسول الله يضحك ويمزح، ولكن ليس ضحكا سافرا، ولا هزل يفقد الإنسان هيبته ووقاره، ولا يذهب نبض الحياة عن القلوب فتغفل عن غاياتها، قال «لاَ تُكْثِرُوا الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» (20)
إنه موت عن النبض بذكر الله، والتدبر في آياته والشكر على نعمه، والاتعاظ بأحوال الخلق وآيات الخالق وحكمه.
كان رسول الله يمزح ويضحك، ولا يزيد عن الابتسامة حتى تبدو نواجذه «فَضَحِكَ النَّبِيُّ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» (21)
كان رسول الله يمزح ويضحك؛ ليطرد السآمة، ويدفع الملل، وينشر البهجة في مجلسه، ويرسم البسمة على وجوه أصحابه، إلا أنه لا ينسيهم غايتهم الكُبرى وهدفهم الأسمى، إنه الله وحقه على العباد، إنها رسالة الإسلام وهمُّ دعوتها ........
جاء حنظله الأسيدي ـ وهو من كتبة الوحي ـ إلى رسول الله ? وقد بدا الحزن على وجهه، إنه لم يحزن لهم من هموم الدنيا، وإنما لهم قد حرك مشاعره الدفينة، وأشعره بالنقص تجاه هذا الدين وهذه الرسالة فقال: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «وَمَا ذَاكَ» قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. (22)
ساعة وساعة، روحوا القلوب وادفعوا عنها الملل، ولكن: لا يدفع الملل بمعصية الله، ولا بانتهاك حرمات الله، ولا بالاستهزاء بالدين وتعاليمه، ولا بالاستهزاء والسخرية من خلق الله، ولا بالكذب والبهتان والزور والإفك، ولا بترويع المسلمين، ولا بالغمز واللمز والغيبة والنميمة، ولا بضحك يذهب الهيبة والوقار ويجريء عليك الحمقى والسفهاء، ولا بانتقاص قدر الناس والتطاول عليهم، ولا بالنيل من العلماء والحكام.
فإياك أن تدخل البهجة على قلبك بشقاء غيرك، أو بإيذائهم.
هكذا كان المزاح والضحك عند رسول الله وهكذا ربّى عليه أصحابه، فكم هي بعيدة عن منهاج التربية النبوية تلك الضحكات الصاخبة التي تؤذي مشاعر الناس
وكم هي بعيدة تلك الضحكات التي منبعها الاستهزاء بالناس والسخرية منهم
وكم هم أشقياء من زينوا وجوههم ببسمات ساخرة قد أكسبت قلوبهم القسوة
ولتتأمل كيف فهم الصحابة ومن تربوا على أيديهم معنى المزاح، لقد صاغوا ما فهموه في كلمات قلائل، إلا أنها أشبه بقوانين يسير عليها كل من أراد التشبه بهم ....
قال عمر بن الخطاب "من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به"
وقال سعد بن أبي وقاص "اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء"
وسُئل ابن عمر ـ رضي الله عنهماـ "هل كان أصحاب رسول الله يضحكون؟
قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال
وقال عمر بن عبد العزيز "اتقوا المزاح، فإنه يذهب المروءة"
وسُئل سفيان بن عيينة: المزاح هجنة؟ أي مستنكر
فأجاب قائلا "بل هو سنة، لكن لمن يحسنه ويضعه في مواضعه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن الترمذي 2475وسنن ابن ماجة 4333واللفظ له ومسند احمد 8316وصححه الألباني في سنن ابن ماجة 4193وفي السلسلة الصحيحة 506
(2) {النَّجم:43} (3) {النمل:19} (4) {المطَّففين:34} (5) سنن الترمذي 2083وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وصححه الألباني في جامع الترمذي 1956
(6) مسلم 6857 (7) تحفة الأحوذي
(8) سنن أبي داوود5000وسنن الترمذي 2122وقال حديث حسن صحيح غريب وصححه الألباني في سنن أبي داوود 4998
(9) سنن أبي داوود 5004وسنن الترمذي 4199وقال حديث حسن غريب صحيح
(10) الآداب للبيهقي - 329 (ج 1 / ص 439)
(11) حسنه الألباني في غاية المرام حديث 375 والآيات من سورة {الواقعة35/ 36}
(12) الآداب للبيهقي - (ج 1 / ص 435)
(13) سنن ابن ماجة 3851 ومسند أحمد 27444وضعفه الألباني في سن ابن ماجة 3719والقلائص: النوق الشابة
(14) تاريخ دمشق - (ج 62 / ص 146) والطرف: الشيء الطيب الغريب
(15) تاريخ دمشق - (ج 62 / ص 146)
(16) السنن الكبرى للنسائي 8917 وأبي يعلى في مسنده حديث رقم: 4476 بإسناد جيد.
(17) سنن الترمذي 4269وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ وصححه الألباني في جامع الترمذي 3895
(18) سنن أبي داوود 4992وسنن الترمذي 2485وقال حديث حسن وحسنه الألباني في سنن أبي داوود4990
(19) سنن أبي داوود 4802وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة273والمِراء: المماراة والجدل
(20) سنن الترمذي 2475وسنن ابن ماجة 4333واللفظ له ومسند احمد 8316وصححه الألباني في سنن ابن ماجة 4193وفي السلسلة الصحيحة 506
(21) البخاري 4811 (22) مسلم 7142
أسامة عبد العظيم