الثاني: التحريض السافر لشباب مفرَّغين من أصول ثقافتهم الممتد تاريخها على مدى ثلاثة عشر قرنا على العبث بهذه الأصول، والكذب عليها بحصائد الألسنة التي لا تستمد بيانها من عقل مستنير يتورع عن الخوض في أمور لا يعرفها حق المعرفة، وهذا أيضا وبيل آخر يسرع إسراع النار في هشيم النبت.
وقد اكتسب الدكتور طه الاستهانة والاستخفاف مما سمعه من حديث جرى على الألسنة في زمان المعركة بين شيوخ الأزهر والشيخ محمد عبده وتلاميذه من بعده.
وأما التحريض على تغيير التاريخ وما اتفق الناس على أنه تاريخ ثم ما دعا إليه من مذهب يؤدي إلى أن ينقلب العلم القديم رأسا على عقب وأن يمحى من هذا العلم القديم أكثره أو ان يمحى منه شيء كثير فهذا هو تجديد الدكتور طه الذي دعانا نحن الصغار إليه.
ومرة أخرى أقول:
جراحات السنان لها التِئام ** ولا يلتام ما جرح اللسان
وإنما قصصت هذا التاريخ الطويل؛ لأنه تاريخ لداء الاستهانة وقلة المبالاة الذي سرى إلى الناس، ولأنه يكشف لنا بوضوح أسباب فساد حياتنا الأدبية التي نعيشها اليوم. وهي حياة فاسدة؛ لأن أساتذتنا الكبار استهانوا بما يقولون، وتركوا ألسنتهم تطول وترعى في مرتع وخيم.
واستهانتهم هذه لم تقتصر جنايتها على العلم أو الأدب، أو التاريخ، أو الدين، بل جنت أيضا على الحياة السياسية التي جاءت بعد ثورة مصر سنة 1919، بل استشرت أيضا حتى جنت على ما هو أعظم، جنت على عامة الناس في حياتهم اليومية، وأعمالهم التي يزاولونها بأيديهم وعقولهم ليكسبوا بها رزق أيامهم وقوت أنفسهم وقوت عيالهم.
كانت الاستهانة شرارة خفية تحت الرماد، وإذا بها اليوم نار ساطعة يستطير لهيبها يمينا وشمالا، وصدق الشاعر الذي يقول (ومعظم النار من مستصغر الشرر)
آه! لقد مضى على الأمة العربية الإسلامية نحو من ثلاثة عشر قرنا لم نسمع في خلالها دعوة تحرض طلبة العلم على إسقاط كتب برمتها من حسابهم، وتحثهم على رفضها وترك النظر فيها، ولذلك قلت آنفا: إن الذي جرى على لسان الشيخ محمد عبده في أوائل القرن الرابع عشر في حركته مع شيوخ الأزهر طلبا لإصلاح التعليم في الأزهر كان أول صدع في ثرات الأمة العربية الإسلامية، ثم تلقف كلامه تلامذته فرددوه ترديدا متواصلا ...........
لم تمض عشرون سنة على ما ردده الشيخ رشيد والشيخ البرقوقي من الاستهانة بالعلماء المتأخرين وكتبهم حتى جاء الدكتور طه حاملا كل الاستهانة والاستخفاف بعلوم المتقدمين جملة واحدة، وحث طلبة صغارا في الجامعة على أن يأخذوا بمذهبه الجديد الذي " يقلب العلم القديم رأسا على عقب "، والذي " يخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو شيئا كثيرا منه " و " أن يشكوا فيما كان الناس يرونه يقينا، وأن يجحدوا ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه، لا بل أن يجاوزوا هذا الحد إلى حدود أخرى أبعد منه مدى وأعظم أثرا، فهم قد ينتهون بهذا المذهب إلى تغيير التاريخ، أو ما اتفق الناس على أنه تاريخ " (الشعر الجاهلي: 6)
وقد كان ما دعا إليه الدكتور طه وأكثر منه، وفعلت الاستهانة فعلها المتمادي في الأجيال الناشئة على يديه، كما نشأ هو على يدي الشيخ رشيد والبرقوقي، وإذا بنا نرى اليوم أساتذة لا يقفون بجرأتهم على السكاكي والسعد التفتازاني، بل يتعدون هذا إلى منشىء علم البلاغة نفسه، فيعلمون اليوم طلبتهم الصغار أن بلاغة عبد القاهر ما هي إلا عجوز شمطاء، أو أن اذي يلجأ إلى البلاغة العربية القديمة هو كالمريض الذي يلجأ إلى حلاق القرية ليداويه، معرضا عن الطبيب الممارس المؤهل لعلاج المرضى!!
ورحم الله الشيخ رشيد والشيخ البرقوقي، فهذا جزاء ما حمله كلامهما من الاستهانة بأقدار العلماء وكتبهم.
بل كانت ثمرة الاستهانة أن يقف أستاذ في أيامنا هذه يعلم النحو ويقول للطلبة الصغار مزهوا بعلمه: كنت أحب أن يجلس سيبويه بينكم ليتعلم مني النحو!!
وأساتذة آخرون يقولون للصغار من الطلبة: إنما أفسد نحو العربية سيبويه وابن عقيل وابن هشام وأشرابهم بما كتبوا وبما ألفوا!!
ويقول أساتذة آخرون: إن الذي أفسد موسيقى الشعر العربي هو الخليل بن أحمد ومن جاء بعده من علماء العروض!!
بل بلغت الاستهانة مبلغها في الدين بعدما نشأ ما يسمونه بالجماعات الإسلامية فيتكلم متكلم في القرآن وفي الحديث بألفاظ حفظها عن شيوخه لا يدري ما هي، ولا يرد، بل يكذب أحاديث البخاري ومسلم بأنها من أحاديث الآحاد بجرأة وغطرسة!!
بل جاء بعدهم أطفال الجماعات الإسلامية فيقول في القرآن والحديث والفقه بما شاء هو، ويرد ما قاله مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، ابن حنبل، ويقول: نحن رجال وهم رجال!!
بل تعدى ذلك إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ نفسه، فيقول: نحن رجال وهم رجال!
أي بلاء حدث في زماننا هذا؟ إنما هو وباء الاستهانة بكل شيء.
وباء تفشى في مصر بل تجاوزها، ورحم الله أبا العلاء المعري، وذكر وباء نزل بمصر وغيرها فقال:
ما خص مصرا وبا وحدها ** بل كائن في كل أرض وبأ
(وبأ بالقصر: هو الوباء بالمد)
انطفأ سراج العلم وسراج الخلق، وبقيت العقول في ظلمات بعضها فوق بعض.
أي نكبة نزلت بعلوم هذه الأمة العربية الإسلامية على يد الصغار في حقيقتهم، الكبار في مراتبهم التي أنزلتهم إياها تصاريف الزمان، فأطلقوا ألسنتهم في مواريث أربعة عشر قرنا بالاستهانة والقدح والازدراء.
وغفر الله للشريف الرضي حيث قال دفاعا عن نفسه، والدفاع عن علم أمتنا أولى بما قال:
وإن مقام مثلي في الأعادي ** مقام البدر تنبحه الكلاب
رومني بالعيوب ملفقات ** وقد علموا بأني لا أعاب
ولما لم يلاقوا في عيبا ** كسوني من عيوبهم وعابوا
ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو بعباده لطيف خبير، وهو القادر على أن يرد من زاغ عن الطريق إلى الجادة، وأن يعيذه من شرور نفسه وفلتات لسانة.
نفثة مصدور، ولابد للمصدور أن ينفث
¥