ولم يكن عميروش يقدر فقط المتعلمين تعليما عربيا، بل كان يحترم المثقفين عموما ولو كانت ثقافتهم باللغة الفرنسية، فكان يقربهم ويرفع من أقدارهم ورتبهم رغم صغر سنهم، حتى أصبح المجاهدون القدماء يحسدون الشباب الذين التحقوا بعد 19ماي 1956م على الرتب التي نالوها (27)، وفي هذا رد على بعض حساده ممن يرميه ببغض المثقفين، بل وبإعدامهم دون جريرة. (تاريخ 19 جوان 1956م هو تاريخ التحاق طلبة المدارس الفرنسية جماعيا بالجهاد، أما طلبة مدارس الجمعية والزوايا فقد كانوا سباقين فرادى وجماعات منذ انطلاق الشرارة الأولى وأول شهيد سقط في الميدان هو قاسم زيتون خريج معهد ابن باديس قتل تحت التعذيب يوم 2 نوفمبر 1954 وألقي جثمانه في ميناء الجزائر).
[الجهاد من أجل القيم هو الجهاد الأكبر]
كان عقيدنا رحمه الله يعلم أن الأمة قد ابتعدت كثيرا عن مقومات شخصيتها، لذلك كان يرى أن معركة القيم هي الجهاد الأكبر الذي ينتظر الأمة بعد الاستقلال، ففي لحظة وداعه للشيح محمد الصالح صديق في تونس أخرج ساعة من جيبه فضبطها على ساعته فأهداها إليه كما هي عادته رحمه الله، فقد كان سخيا كريما، أعطاه إياها وقال:" خذها لِتَعُدَّ بها أيام الاستعمار الباقية في الجزائر وهي قليلة، وبعد الاستقلال سنخوض معركة أخرى من أجل قِيَمِنا وإسلامنا ولغتنا العربية فذلك هو الجهاد الأكبر" (28).
الخلاصة: أن هذه الكلمات، ولا شك قد أظهرت صفحة مجهولة من حياة العقيد عميروش؛ وهي تَدَيُّنَه العميق وحبه للعلم والعلماء، وحبه للغة العربية التي هي لغة القرآن ودين الإسلام ..
وفي الأخير ننقل هذه الكلمات المقتطفة من كتاب جودي أتومي المقاتل الذي عاش مع عميروش مدة في الولاية الثالثة قال:"من غير شك أنه يدعو لأن يكون للدين مكانة هامة لدى المجاهدين" "وكان يحب التعمق في أمور الشريعة" "وكان تقيا محافظا على الدين حريصا على القيم الإسلامية التي يُلْزِم جميع المجاهدين باتباعها"، ونقل أن المنخرطين الجدد قبل 1956م كان قَسَمُهم أمام عميروش: "أقسم على المصحف الشريف بأن أكافح حتى النصر أو الشهادة " (29). ومن شدة ما أثر عنه ما الالتزام بالدين وبأحكامه فقد وصفه بعضهم بعمر بن الخطاب، وقيل بأنه كان يفرض على المجاهدين أن يعلموا أحكام الجهاد في الشريعة الإسلامية (30).
استشهاد العقيد عميروش رحمه الله
وقد استشهد رحمه الله تعالى يوم 29 مارس 1959م مع العقيد سي الحواس، لما كانا في طريقهما إلى تونس في جبل ثامر قرب بوسعادة، تحت قصف الطائرات والمدفعية بعد وشاية بهما لا يعلم مصدرها يقينا، استُشهد رحمه الله وهو يحمل في جيبه المصحف الشريف (31)، وفي قبله همّ العربية والإسلام، استُشهد رحمه الله وهو يحمل في جعبته مطالب تهم الجهاد في الداخل والطلبة في الخارج، وتهََم التوجه العام للجهاد الجزائري آنذاك (32).
نسأل الله تعالى أن ينفعني وإخواني بهذه الكلمات، وإن مما نرجوه أن تكون فاتحة لشهية الباحثين عموما، والمختصين في التاريخ خصوصا؛ أن يُبرزوا مثل هذه الجوانب التاريخية التي تخدم قضايا أمتنا في هذه الأيام، خاصة مع كثرة حملات التشويه ضد أعلام الجهاد، وكثرة التزييف للحقائق والتحريف للتاريخ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــ
الهوامش
1/ مذكرات من مسيرة النضال والجهاد لعبد الحفيظ أمقران نقلا عن دور العقيد عميروش في ثورة الجزائر لشوقي عبد الكريم (50 - 51) ويقول المؤرخ ناصر الدين سعيدوني وهو يتحدث عن النزعة البربرية التي اجتاحت حزب الشعب في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات:" وقد كان للبطل المجاهد عميروش مواقف وأعمال خالدة في محو بقايا هذه الترسبات في المنطقة بأكملها" انظر فرنسا والأطروحة البربرية في الجزائر لأحمد بن نعمان (129).
2/ كلمة ألقاها في ملتقى "دور جمعية العلماء في الحرب التحريرية"في بلعباس في 13 نوفمبر 2008م.
3/انظر العقيد عميروش أمام مفترق الطرق لجودي أتومي (176) وفي الصفحة (186) صورة لعميروش مع أعضاء خلية من خلايا جمعية العلماء في باريس.
4/ العقيد عميروش لمحمد الصالح صديق (27 - 28).
5/ العقيد عميروش أمام مفترق الطرق لجودي أتومي (185).
6/ أحداث ومواقف لمحمد الصالح بن عتيق (77).
7/ العقيد عميروش أمام مفترق الطرق لجودي أتومي (178).
¥