تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد وصف محمود شاكر - رحمه الله- هذه الفترة تفصيلاً في المقدمة الجديدة لكتابه " المتنبي" حيث يقول: - ( ... كان ما كان، ودخلنا الجامعة، بدأ الدكتور "طه" يلقي محاضراته التي عرفت بكتاب في " الشعر الجاهلي" ومحاضرة بعد محاضرة، ومع كل واحدة يرتد إلي رجع من هذا الكلام الأعجمي الذي غاص في يمّ النسيان! وثارت نفسي، وعندي الذي عندي من المعرفة بخبيئة هذا الذي يقوله الدكتور "طه" = عندي الذي عندي من هذا الإحساس المتوهج بمذاق الشعر الجاهلي، كما وصفته آنفا، والذي استخرجته بالتذوق، والمقارنة بينه وبين الشعر الأموي والعباسي. وأخذني ما أخذني من الغيظ، وما هو أكبر وأشنع من الغيظ، ولكني بقيت زمناً لا أستطيع أن أتكلم.

تتابعت المحاضرات، والغيظ يفور بي والأدب - الذي أدبنا به آباؤنا وأساتذتنا- يمسكني، فكان أحدنا يهاب أن يكلم الأستاذ، والهيبة معجزة، وضاقت علي المذاهب، ولكن لم تخل أيامي يومئذ في الجامعة من إثارة بعض ما أجد في نفسي، في خفوت وتردد. وعرفت فيمن عرفت من زملائنا شاباً قليل الكلام هادىء الطباع، جم التواضع، وعلى أنه من أترابنا، فقد جاء من الثانوية عارفاً بلغات كثيرة، وكان واسع الإطلاع، كثير القراءة، حَسَن الإستماع، جيد الفهم، ولكنه كان طالبا في قسم الفلسفة، لا في قسم اللغة العربية. كان يحضر معنا محاضرات الدكتور، وكان صفوه وميله وهواه مع الدكتور "طه" ذلك هو الأستاذ الجليل " محمود محمد الخضيري". نشأت بيني وبينه مودة فصرت أحدثه بما عندي، فكان يدافع بلين ورفق وفهم، ولكن حدتي وتوهجي وقسوتي كانت تجعله أحيانا يستمع ويصمت فلا يتكلم. كنّا نقرأ معا، وفي خلال ذلك كنت أقرأ له من دواوين شعراء الجاهلية، وأكشف له عما أجد فيها، وعن الفروق التي تميز هذا الشعر الجاهلي من الشعر الأموي والعباسي. وجاء يوم ففاجأني "الخضيري" بأنه يحب أن يصارحني بشيء وعلى عادته من الهدوء والأناة في الحديث، ومن توضيح رأيه مقسماً مفصلاً، قال لي: إنه أصبح يوافقن ي على أربعة أشياء:_

الأول: أن اتكاء الدكتور على "ديكارت" في محاضراته، اتكاء فيه كثير من المغالطة، بل فيه إرادة التهويل بذكر "ديكارت الفيلسوف"، وبما كتبه في كتابه " مقال عن المنهج" وأن تطبيق الدكتور لهذا المنهج في محاضراته، ليس من منهج "ديكارت" في شيء.

الثاني: أن كل ما قاله الدكتور في محاضراته، كما كنت أقول له يومئذ، ليس إلا سطواً مجرداً على مقالة "مرجليوث"، بعد حذف الحجج السخيفة، والأمثلة الدالة على الجهل بالعربية، التي كانت تتخلّل كلام ذاك الأعجمي وأن ما يقوله الدكتور لا يزيد على أن يكون " حاشية" وتعليقاً على هذه المقالة.

الثالث: أنه على حداثة عهده بالشعر وقلة معرفته به، قد كان يتبين أن رأيي في الفروق الظاهرة بين شعر الجاهلية وشعر الإسلام، أصبح واضحاً له بعض الوضوح وأنه يكاد يحس بما أحس به وأنا أقرأ له الشعر وأفاوضه فيه.

الرابع: أنه أصبح مقتنعاً معي أن الحديث عن صحة الشعر الجاهلي، قبل قراءة نصوصه قراءة متنوعة مستوعبة، لغو باطل وأن دراسته كما تدرس نقوش الأمم البائدة واللغات الميتة، إنما هو عبث محض.

وافق أن جاء في حديثه هذا في يوم من أيام العصبية. فالدكتور "طه" أستاذي، وله علي حق الهيبة، هذا أدبنا. وللدكتور "طه" علي يدٌ لا أنساها، كان مدير الجامعة يومئذ " أحمد لطفي السيد" يرى أن لاحق لحامل " بكالوريا" القسم العلمي في الإلتحاق بالكليات الأدبية، ملتزما في ذلك بظاهر الألفاظ!! فاستطاع الدكتور " طه" أن يحطم هذا العائق بشهادته لي، وبإصراره أيضا. فدخلت يومئذ بفضله كلية الآداب، قسم اللغة العربية، وحفظ الجميل أدب لا ينبغي التهاون فيه. وأيضا فقد كنت في السابعة عشرة من عمري، والدكتور طه في السابعة والثلاثين، فهو بمنزلة أخي الكبير، وتوقير السن أدب ارتضعناهُ مع لبان الطفولة. كانت هذه الآداب تفعل بي فعل هوى المتنبي بالمتنبي حيث يقول:

رَمَى واتّقى رَمْيي، وَمِنْ دونِ ما اتقَى هوىً كاسِرٌ كَفَّي، وقَوسي، وأسْهُمي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير