وبكتابه هذا نشأت معركة جديدة بينه وبين الآخرين، خاصة بينه وبين طه حسين بعد سنتين من صدوره إذ أخرج هذا الأخير كتابا سماه " مع المتنبي" واندلعت هذه المعركة في مجلة البلاغ تحت عنوان (بيني وبين طه) بيّن فيها شاكر (عدم بصر) طه حسين بالشعر وبسطوه على بعض ما قاله شاكر في الشّك حول والد المتنبي سطواً فجاً قبيحاً .. وبلغت اثنتي عشرة مقالة حتّى جاءه نعي أستاذه وصديقه "مصطفى صادق الرافعي" (1937 م) (فانهدم في نفسي كلّ ما كان قائماً، وذهب الدكتور "طه" وكتابه جميعاً من نفسي تحت الهدم فـ:-
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي
في سنة 1940 م شرع الشيخ شاكر في قراءة التراث وشرحه، فنشر كتاب " إمتاع الأسماع بما للرسول - صلى الله عليه وسلم- من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع" للمقريزي، و " المكافأة وحسن العقبى" لأحمد بن يوسف بن الداية الكاتب، وفي هذه السنة عهد صاحب " الرسالة" أحمد حسن الزيات إلى شاكر بتحرير باب " الأدب في أسبوع"، فأجاب إلى ذلك وكتب طائفة من التعقيبات والتعليقات .. وفي هذه الفترة ألف الشعر ومنه قصيدته " تحت الليل" التي قال فيها:-
أهيم وقلبي هائمٌ وحشاشتي تهيمُ فهل يبقى الشّقي المبعثرُ؟
لئن أبقت الآمال مني لطالما تقلّبتُ في آلامِها أتضوّر
تنازعني من كلِّ وجه ساحر يمثل لي إقبالها ويصور
فيهوى لها بعضي، وبعضي موثق بأشواقه الأخرى إلى حيث تنظر
ومن شعره كذلك:
ذكرتك بين ثنايا السطور وأضمرت قلبي بين الألم
ولستُ أبوح بما قد كتمت ولو حزَّ في نفسي حدّ الألم
فكم كتم اللَّيل من سرنا وفي اللِّيلِ أسرارُ من قد كتم
القوس العذراء ...
وفي سنة 1952م نشر الشيخ/ محمود شاكر قصيدته الرائعة (القوس العذراء) وهي قصيدة طويلة تبلغ مائتين وثمانين بيتاً استلهمها من قصيدة الشماخ- رضي الله عنه- التي مطلعها:
عفا نطن قوٍّ من سليمى فغالز فذات الغضا فالمشرفات النوافز
والشماخ هو ابن ضرار الغطفاني، شاعر فحل، صحابي، أدرك الجاهلية ثم أسلم، كان أعوراً، وعلى عوره كان وصّافاً، أجاد وصف الحمر الوحشية، غزا في فتوح عمر - رضي الله عنه، وشهد القادسية ثم غزا أذر بيجان مع سعيد بن العاص، فاستشهد في غزوة موقان سنة أربع وعشرين من الهجرة في عهد عثمان - رضي الله عنهما-
وفي زائيّته التي نسج الشيخ/ شاكر على منوالها، وصف الشماخ قصّة قوّاس صنع قوسا فأتقنها حتى كانت رميتها لا تخيب، ثّم اضطره فقره إلى بيعها، فأخذ الشيخ شاكر هذه القصة ونسج عليها رائعة من روائع الشعر المعاصر .. جعلها واسطة بينه وبين صديق له لم تبلو مودته وصداقته:
فدع الشماخ ينبئك عن قوَّاسها البائس من حيث أتاها
أين كانت في ضمير الغيب من غيلٍ نماها؟
كيف شقت عينه الحجب إليها فاجتباها؟
كيف ينغل إليها في حشا عيصٍ وقاها؟
كيف أنحا نحوها مبراته، حتى اختلاها؟
كيف قرت في يديه واطمأنت لفتاها؟
كيف يستودعها الشمس عامين تراه ويراها؟
وفي هذه القصيدة القصصية استودع شاكر نظرته للحياة، وبيّن فيها صراع العاطفة مع العقل، وكيف يهزم المال الحب؟، وكيف يتحطم المثال على صخرة الواقع .. وشاكر في هذه القصيدة كأنه يبرر لنفسه ما أصابه من اضطراب بين مواقفه الجريئة الواضحة وبين ما كان يقع فيه من أعمال لا تستقيم مع رؤاه:-
وفاضت دموع كمثل الحميم لذاعة نارها تستهل
بكاء من الجمر، جمر القلوب، أرسلها لاعج من خيل
وغامت بعينيه واستنزفت دم القلب يهطل فيما هطل
وخانقة ذبحت صوته وهيض اللّسان لها واعتقل
وأغضى على ذلّة مطرقا عليه من الهم مثل الجبل
أقام وما أن به من حراك تخاذل أعضاؤه كالأشل
ولكن الشيخ يختم قصيدته بالأمل وبوجوب ترك اليأس بعد السقوط على خلاف ختم الشماخ قصيدته:_
أفق يا خليلي أفق لا تكن حليف الهموم صريع العلل
فهذا الزمان وهذي الحياة علمتنيها قديما .. دول!!
أفق لا فقدتك ماذا دهاك؟ تمتع! تمتع بها لا تُبَل
بصنع يديك تراني لديك، في قدِّ أختي! ونِعْمَ البدل
صدقت! صدقت! وأين الشّباب؟ وأين الولوع؟ وأين الأمل؟
صدقت! صدقت!! نعم صدقتُ! سِرُّ يديك كأن لم يزل
حباك به فاطر النّيرات، وباري النّبات، ومرسي الجبل
فقم واستهِلّ، وسبّح له! ولبَّ لرب تعالى وجل
¥