تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الرؤية الإسلامية لابن عاشور تتجاوز هذا التجاذب الثنائي في مرجعية الحرية ومعيارها، فكون الحرية صفة فطرية غريزية تلقائية، لا ينفي اعتمادها - تأصيلا وممارسة على العقل والنظر العقلي. وهذا ما يفسر لنا كون الحرية ولدت مع الإنسان، ولكنها أيضا ولدت مقيدة من اللحظة الأولى، ولو أن تقييدها جاء في البداية رمزيا واستثنائيا. يقول ابن عاشور:" وقد دخل التحجير في بني البشر في حريته من أول وجوده، إذ أذن الله لآدم وزوجه - حين خلقا وأسكنا الجنة - الانتفاع بما في الجنة، إلا شجرة من أشجارها. قال تعالى: (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) ثم لم يزل يدخل عليه التحجير في استعمال حريته بما شرع له من الشرائع والتعاليم المراعى فيها صلاح حاله في ذاته، ومع معاشريه، بتمييز حقوق الجميع ومراعاة إيفاء كل بحقه".

وهكذا تتأسس رؤية ابن عاشور إلى الحرية على أصالة مزدوجة متكاملة فيها: أصالة فطريتها الملازمة لكل فرد في خلقته، وأصالة مبدإ تقييدها وعقلنتها، باعتباره الشكل الوحيد الممكن لتحقيقها وإنجاحها. يقول في مثال آخر عن حرية العمل:" وأما حرية العمل فإن شواهد الفطرة تدل على أن هذه الحرية أصل أصيل في الإنسان، فإن الله تعالى لما خلق للإنسان العقل وجعل له مشاعر تأتمر بما يأمرها العقل أن تعمله، وميز له بين النافع والضار بأنواع الأدلة، كان إذن قد أمكنه من أن يعمل ما يريد مما لا يحجمه عنه توقع ضرر يلحقه ... فكانت حرية العمل والفعل أصلا فطريا ... "

وقد ألف الأستاذ محمد زكي عبد القادر كتابا لطيفا، يعد بمثابة استقراء لما قيل عن الحرية لدى مختلف الأمم والشعوب وعلى مدى عشرات القرون من الزمن. ويلخص المؤلف فكرة كتابه وثمرته بقوله في مقدمته:" وهذا الكتاب الذي أقدم له جمع أقوالا في الحرية والكرامة الإنسانية، اختيرت من مختلف اللغات في الشرق والغرب: من العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والإغريقية القديمة، واليونانية الحديثة، والإسبانية والإيطالية والألمانية، والأردية، والنرويجية، وعلى الجملة من عدد كبير من اللغات التي يتحدث بها البشر، ومن مختلف العصور. فيها أقول قيلت قبل الميلاد بألف سنة، وفيها أقوال قيلت منذ سنوات. وعلى طول ما يفصل بينها من الزمن لا تكاد تجد المعاني تغيرت، ولا حب الحرية والافتتان بها قل أو تحول. وفي هذا دليل على أن الحرية والكرامة الإنسانية ليستا شيئين ينموان بنمو الإنسان، ولكنهما شيئان ولدا معه وأحس بهما وكافح من أجلهما وأراق دمه في سبيلهما قد يتطور مدلولهما ويتقدم ويتسع، وقد يتخذ أشكالا متعددة، ولكنهما من حيث الجوهر باقيان خالدان."

وإذا كانت الحرية صفة فطرية من صميم خلقة الإنسان ومن صميم مؤهلاته الأولية، فمن الطبيعي أن يجعل الإسلام - وهو دين الفطرة - هذه الحقيقة أساسا مرجعيا في تشريعاته وأصوله التشريعية. ولتوضيح ذلك أعرض فيما بعض الأصول الإسلامية المترجمة لمبدأ أصالة الحرية.

الإباحة الأصلية:

من القضايا التي يتطرق إليها ويناقشها عامة الأصوليين قضية حكم الأفعال والأشياء قبل ورود الشرع، أي في حالة عدم وجود شرع, وكذلك حكم الأفعال والأشياء التي سكت عنها الشرع بعد وروده، فلم يخصها بحكم.

ويحكي الأصوليون في هذه المسألة ثلاثة أقوال مشهورة، مع قول رابع يمكن إضافته وتمييزه عند التمحيص والتدقيق.

1. القول الأول لجمهور الأصوليين، وخاصة منهم الحنفية، وعامة الفقهاء. وهو قول الظاهرية ومفاده أن كل ما لم يرد فيه شرع، أو لم يخصه الشرع بحكم، فالأصل فيه أنه مباح. وهذا ما يقصدونه بعبارة "الأصل في الأشياء الإباحة" أو "الإباحة الأصلية".

2. القول الثاني، وهو لبعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، ويرون أن الأصل في الأشياء هو الحظر والمنع، حتى يرد دليل الإباحة.

3. القول الثالث، وهو لكثير من الأصوليين المتكلمين، من معتزلة وأشاعرة، وهو القول بالوقف، باعتبار أن كلا من الإباحة والتحريم حكم شرعي وحيث لا دليل ولا خطاب من الشرع فلا حكم، أي لا تحريم ولا إباحة، وإنما نتوقف عن إصدار حكم في المسألة وفروعها التطبيقية.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير