تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

4. أما القول الرابع، وهو قلما يذكر، فهو التفريق بين الأشياء النافعة، والأشياء الضارة. فالأصل في الأولى الإباحة، والأصل في الثانية التحريم. وبهذا قال الفخر الرازي، وتبعه بعض المتأخرين.

وأنا أريد أن أقف عند القولين الأول والثاني. فالأول مع الحرية وأنها هي الأصل، والثاني على العكس. أما القولان الآخران فيؤولان في النهاية إلى الوفاق العملي مع القول الأول.

فالقول بالوقف، هو مجرد امتناع من إصدار "حكم شرعي" بالإباحة أو الحظر. والنتيجة العملية أن الناس في هذه الحالة يبقى أمرهم بيدهم، فمن شاء أقدم ومن شاء أحجم. فالقول بالوقف لا يمكن أن يتحول إلى تحفظ وتعرض، وإلا التحق بالحظر والتحريم، وإذا ترك الناس لشأنهم فتلك هي الإباحة عمليا، وإن لم يصدر بشأنها "حكم شرعي". فأصحاب هذا القول يختلفون مع القول الأول نظريا لا عمليا، فهو خلاف كلامي ليس إلا.

وأما القول الرابع، فهو وإن كان فيه تدقيق وجيه وله سنده في نصوص الشرع، فهو بمثابة ذكر الاستثناء عند ذكر القاعدة. ذلك أن ما خلق الله تعالى من أشياء كله في الأصل مفيد ونافع، والضرر فيه عارض وشاذ. فإذا قررنا أن الأصل في المنافع الإباحة، فكأننا قررنا أن الأصل العام في الأشياء هو الإباحة، وهذا هو القول الأول. وإذا قررنا أن الأصل في المضار التحريم، فكأننا قررنا أن التحريم وارد على سبيل الاستثناء في الأشياء الضارة ضررا راجحا، وهي ذات نسبة ضئيلة بجانب ما في الكون والحياة من منافع وفوائد ومصالح.

وأعود للقول الأول لأوضحه وأوضح أهم مستنداته، وهو القول بأن الأصل العام في الأشياء والأفعال هو الإباحة، أي حرية التصرف.

يستند هذا القول إلى جملة من الآيات والأحاديث، فيما يلي بعضها.

* قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) فهذه الآية تفيد أن جميع ما في الأرض قد خلق للمخاطبين n وهم بنو آدم n ليستعملوه وينتفعوا به، كما قال في الآية الأخرى (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) فالأرض مستقرنا وما فيها متاع لنا.

ولا يقف الأمر عند الأرض وما فيها، بل يتجاوزها إلى السماوات وما فيها (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)، (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه)

- قوله عز وجل (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) وهذا معناه أن ما حرمه الله تعالى هو ما ذكره ونص عليه وفصل القول فيه. ومعناه أيضا انتفاء التحريم عما سواه. وقد جمع ابن حزم مضمون هذه الآية مع مضمون الآية الأولى (خلق لكم ما في الأرض جميعا) وركب منهما نتيجة قاطعة بقوله: " فصح بهاتين الآيتين أن كل شيء في الأرض وكل عمل فمباح حلال إلا ما فصل الله تعالى تحريمه باسمه، نصا عليه في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ... ".

قال ابن حزم: " ثم زادنا تعالى بيانا فقال: (هَلُمشهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم)، فصح بنص هذه الآية صحة لا مرية فيها أن كل ما لم يأت النهي فيه باسمه من عند الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حلال، لا يحل لأحد أن يشهد بتحريمه".

على أن كلام ابن حزم رحمه الله مع متانته وقوة منطقه n يحتاج إلى شيء من الاستدراك والتدقيق في بعض ألفاظه، وهو ما سأورده في ثنايا الفقرة التالية:

- استدل القائلون بالإباحة الأصلية كذلك بعدة آيات نصت على إباحة الطيبات وما خلقه الله من زينة ورزق، وتنكر على من حرموا ما خلق الله لعباده، كما تنص بعض هذه الآيات n وهو محل الاستدراك على كلام ابن حزم n على تحريم ما كان خبيثا. قال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون)، (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)، (اليوم أحل لكم الطيبات).

فكل هذه النصوص تفيد صراحة وقطعا أن كل ما كان زينة وطيبا، فحكمه الأصلي هو الحل والإباحة، ولا يتعلق به التحريم إلا عرضا ولأسباب عرضية ليست ذاتية.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير