«أقول: إن كان الحال كذلك، فهذا ما ندين الله به نحن أيضاً، وهو خلاصة لُباب التوحيد، وما علينا من المارقين والمتعصبين، وقد بسط الكلام في ذلك ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان)، والحافظ المقريزي في (تجريد التوحيد)، والإمام اليوسي في (شرح الكبرى)، و (شرح الحِكَم) لابن عباد، وكتاب (جمع الفضائل وقمع الرذائل)، وكتاب (مصايد الشيطان)، وغير ذلك» [13] ا هـ.
لقد صار الجبرتي شديد الإعجاب بالوهابيين، يدافع عنهم في مجالسه، وفي أوراقه التي يكتبها، ولم يخش سلطان «محمد علي باشا» الذي كان يحكم مصر، برغم أن هؤلاء كانوا في عداد أعدائه.
وظل يُظهر تعاطفه مع الدعوة الوهابية، حتى تَحوَّل تاريخه إلى دعاية صريحة للوهابيين، وقد كلَّفه هذا الموقف حياة ابنه ثم حياته نفسِه.
يقول الأستاذ محمد جلال كشك: «أستطيع أن أجزم بأن كتابات الجبرتي عن القضية الوهابية هي السبب الأساسي لما نزل به من تنكيل الباشا، إلى حد اغتيال ابنه، وتوقفه عن الكتابة، ثم نهايته الغامضة الظروف» [14].
وقال الزركلي في ترجمة الجبرتي: «وقُتل له ولد، فبكاه كثيراً حتى ذهب بصره، ولم يَطُلْ عماه، فقد عاجلته وفاته مخنوقاً» [15].
وقال الشيخ أحمد بن عبد العزيز الحصيِّن: «وبلغ حقدهم الدفين على هذه الدعوة المباركة حتى وصل الأمر إلى قتل ابن المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي وهو ممن يتحمسون لهذه الدعوة، بإيعاز من محمد علي حاكم مصر الذي حارب هو وأبناؤه الدعوة انتقاماً من أبيه لتعاطفه مع الوهابيين» [16].
• موقف الشيخ محمد رشيد رضا [17]:
لم يعرف الشيخ «رشيد» عن دعوة «الشيخ محمد بن عبد الوهاب» في الشام إلا ما يعرفه عامة الناس آنذاك، وما تتناقله الألسن من الكذب والافتراء على دعوة «الشيخ محمد ابن عبد الوهاب»، ولم يعرف الشيخ «رشيد» حقيقة هذه الدعوة إلا بعد قدومه مصر، واطلاعِه على تاريخ الجبرتي، ولقد وصلت دعوة الشيخ «محمد بن عبد الوهاب» إلى مصر عن طريق أولاده وأحفاده الذين أتى بهم واليها «محمد علي» ومعهم عِلمُهم وكتبهم، لقد قدم إلى مصر عدد كبير من أسرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ودرس بعضهم في الأزهر، وكانوا طلقاء يمشون بين الناس، ولهذا السبب، ولأنهم دَرَسوا في الأزهر، ودرَّسوا، وصنفوا، انتشرت هذه الدعوة بمصر، وعُرفت.
لقد بقي «عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب» تلميذ الجبرتي مدة ثماني سنوات في مصر قبل عودته إلى وطنه في سنة (1241هـ)، وبقي ابنه «عبد اللطيف» ثلاثين عاماً في الأزهر.
ومن هذا يتضح أن دعوة الشيخ محمد وصلت مصرَ مبكراً، وهناك عرفها الشيخ رشيد رضا على حقيقتها؛ فماذا عرف عنها؟
يقول الشيخ رشيد: «لم يخلُ قرن من القرون التي كثرت فيها البدع من علماء ربانيين يجددون لهذه الأمة أمر دينها، بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ... ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، وترك البدع والمعاصي، وإقامة شرائع الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة ... ».
إنه لا يسع منصفاً مهما اختلف مع الشيخ رشيد رضا [18] إلا أن يقر بأنه «أبو السلفية» في مصر، وأن له في عنق السلفيين، شاؤوا أم أبوا شكروا له أو جحدوا، مِنَّةً وفضلاً، وآية ذلك دوره الرائد في نشر التراث السلفي، ومنافحته عن عقيدة السلف، ورموزها ممثلة في شيخي الإسلام ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، وذلك من خلال مجلته «المنار».
لقد بدأ رشيد رضا الدفاع عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1320هـ (1903م)، ففي تلك السنة أقيمت بمصر احتفالات بمناسبة مرور مائة عام على مُلك أسرة «محمد علي» على مصر، وزُيِّنَتَ المساجد والجوامع بالأنوار، فهاجم رشيد ذلك العمل، وقال: «إن المساجد بيوت الله، ولا يصح أن تُزَين للاحتفال بذكرى الملوك والأمراء المستبدين». ثم تطرق إلى مساوئ سياسة «محمد علي» ومنها قتاله للوهابيين وقضاؤه عليهم، وهم الذين نهضوا بالإصلاح الديني في جزيرة العرب مهدِ الإسلام ومعقله» [19] ا هـ.
وقال أيضاً:
¥