وإن صاحب مثل هذه العلاقة مع مثل هذه الشخصية ليحس بثقل ديونه على كاهله ويلمس عظم المنة تطوق عنقه، فهل أستطيع توفية هذا الجانب فحسب فضلاً عن الجوانب العامة التي هي موضوع الترجمة والسيرة، وهل يتأتى مني الإحجام عن الكتابة وأنا مدين بمثل تلك الديون مكبل بتلك المنن مما يجعلني أحق بقول القائل:
كليني لهم يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطيئ الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض
وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وصدر أراح الليل عازب همه
تضاعف فيه الحزن من كل جانب
علي لعمر نعمة بعد نعمة
لوالده ليست بذات عقارب
ولئن قيل:
وتجلدي للشامتين أريهمو
أني لرب الدهر لا أتضعضع
فإني لأقول
وتجلدي للسامعين أريهمو
شمس الحقيقة من سناه تطلع
وإني ملزم بالكتابة ولو تأثرت بالعاطفة فإني معذور:
وإن قصرت عن حقه فلا عذر لي في التقصير.
وإني لأعتبر ما أقدمه بداية لا نهاية وتذكرة للآخرين من حاضرين وغائبين لعلهم يتمون ما بقي، ويكملون ما نقص.
وإذا كانت التراجم والسير تنقسم إلى ذاتية وغير ذاتية، والذاتية هي ما يكتبها الشخص عن نفسه من طفولته إلى رجولته، ويسجل ما جرى له وعليه، وهي أصدق ما تكون إن كان صاحبها معتدلاً أميناً.
وقد ترجم بعض العلماء والفلاسفة لأنفسهم منهم:
1 - ابن سينا المتوفى سنة 428 كانت ترجمته لنفسه مرجعاً لكل من كتب عنه من تلاميذه.
2 - والعماد الأصفهاني المتوفى سنة 597 في مقدمة كتابه (البرق الشامي).
3 - وابن الخطيب المتوفى سنة 776.
4 - وابن خلدون، المتوفى 805، والسيوطي وغيرهم.
والترجمة غير الذاتية ما يكتب غيره عنه.
وإن ما أقدمه في هذا المجال ليجمع بين القسمين الذاتي وغير الذاتي لأنه يشتمل على ما قاله هو عن نفسه وسمعته منه مباشرة، كما تشتمل على ما عرفته ولمسته من حياته مدة صحبتي له.
والله أسأل أن يجعل من سيرته خير قدوة لتلامذته، وأن يجعل في ولديه خير خلف لخير سلف، وأن يأجرنا في مصيبتنا ويخلفنا خيراً منها، ونسأله تعالى أن يتغمده بوافر رحمته ويسكنه فسيح جنته وأن يجزل له العطاء ويجزيه أحسن الجزاء عما بذله من جهد، وخلفه من علم. إنه جواد كريم (إن أول ما يبدأ به في مثل هذا المقام لهو الاسم واللقب والنسب والنشأة والموطن) …الخ.
وهذه ترجمته رحمه الله كما سمعتها منه مباشرة:
الاسم: هو محمد الأمين، وهو علم مركب من اسمين وذكر محمد تبرك.
واللقب: آبا. بمد الهمزة وتشديد الباء من الإباء.
واسم أبيه: محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح بن محمد بن سيدي أحمد ابن المختار من أولاد أولاد الطالب أوبك وهذا من أولاد أولاد كرير بن الموافي بن يعقوب بن جاكن الابر جد القبيلة الكبيرة المشهورة المعروفة بالجكنيين. ويُعرفون بتجكانت.
نسب القبيلة: ويرجع نسب هذه القبيلة إلى حمير، كما قال الشاعر الموريتاني محمد فال ولد العينين مستدلا بفصاحتهم على عروبتهم:
إنا بنو حسن دلت فصاحتنا
أنا إلى العرب الأقحاح ننتسب
إن لم تقم بينات أننا عرب
ففي (اللسان) بيان أننا عرب
أنظر إلى ما لنا من كل قافية
لها تذم شذور الزبرج القشب
وبيّن شاعر آخر مرجع تلك القبيلة إلى حمير بقوله:
يا قائلا طاعناً في أننا عرب
قد كذبتك لنا لسن وألوان
وسم العروبة بادٍ في شمائلنا
وفي أوائلنا عز وإيمان
أساد حمير والأبطال من مضر
حمر السيوف فما ذلوا ولا هانوا
لقد كانت خصائص العروبة ومميزاتها موفورة لدى الشيخ رحمه الله ولدى أهله وذويه في النظم وفي النثر، كما توفرت العلوم والفنون في بيته وقبيلته: وقد بيّن أحد شعرائهم أصالة العروبة فيهم وارتضاعهم إياها من أمهاتهم في قوله يخاطب من ينكرها عليهم:
لنا العروبة الفصحى وإنا
أحق العالمين بها اضطلاعا
عن الكتب اقتبستموها انتفاعا.
بما فيها ونرضعها ارتضاعا
المولد: ولد رحمه الله في عام 1325ه.
الموطن: كان مسقط رأسه رحمه الله عند ماء يسمى (تَنْبه) من أعمال مديرية (كيفا) من القطر المسمى بشنقيط وهو دولة موريتانيا الإسلامية الآن. علماً بأن كلمة شنقيط كانت ولا تزال اسماً لقرية من أعمال مديرية أطار في أقصى موريتانيا في الشمال الغربي.
نشأته رحمه الله: وقبل الحديث عن نشأته يحسن إيجاز نبذة عن البيئة في تلك البلاد:
¥