تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ربُّ الدار ِ، وهو يخدمُ ويقومُ ويأتي بنفسهِ، وربّما أعانهُ بعضُ إخوتهِ، ولا تكادُ تزورُ الشيخَ إلا وتشعرُ ذاتَ الشعور ِ الذي شعرتُهُ أنا، فهو مُتهيئٌ للجودِ والكرم ِ بالفطرةِ.

وفي بيعهِ وشراءهِ لا يُماكسُ ولا يترادُّ مع البائع ِ، وإنّما يشتري بنفس ٍ طيّبةٍ، وربّما يزيدُ في السعر ِ، وكنتُ معهُ مرّة ً فوقفَ لتعبئةِ السيّارةِ بالوقودِ، فدفعِ للعامل ِ مُستحقّهِ ولم يأخذ ما تبقّى من المال ِ، بل تركهُ للعامل ِ، وهذه عادة ٌ معروفة ٌ للشيخ ِ، أنّهُ لا يكادُ يستردُّ ما بقيَ لهُ من مال ٍ إلا نادراً، كرماً منهُ وسخاءً، كما أنّهُ إذا قبلَ الهديّة َ كافأ صاحبَها ولا بُدَّ بأحسنَ منها، بل إنّهُ مرّة ً حضرَ مأدبة ً أقامها لهُ رجلٌ قعيدٌ لا يمشي لحادثٍ أصابهُ، فلمّا انتهتِ المأدبة ُ قصدَ الشيخ ُ إلى أحدِ الشبابِ وأعطاهُ مبلغاً وقالَ لهُ: ادفعه إلى صاحبِ المنزل ِ، فلمّا جاءَ الرّجلُ بالمال ِ إلى صاحبِ المنزل ِ، تفاجأ وإذا بهِ يوازي ما دفعهُ على المأدبةِ، وقد حدثني بهذه القصّة ُ صاحبُ الدعوةِ شخصيّاً.

وبلغهُ مرّة ً أنَّ أحدَ طلاّبهِ مرضتْ أمّهُ، فما كانَ من شيخِنا إلا أن أدخلها أحدَ المستشفياتِ الخاصّةِ على نفقتهِ، إلى أن برئتْ، وهو في هذا من عجائبِ الزمان ِ، رعاية ً لحقوق ِ طلاّبهِ وأصفيائهِ، وسؤالاً عنهم، ووقوفاً معهم في حالاتِ العُسر ِ والكربةِ والضيق ِ، ولا أعرفُ رجلاً من طلاّبهِ إلا وللشيخ ِ عليهِ يدٌ أو صنيعة ٌ، يفعلُ ما يفعلُ بنفس ٍ طيبةٍ وصدر ٍ رحبٍ، وواللهِ إنّهُ كانَ يهتزُّ للبذل ِ والعطاءِ والصلةِ كما يهتزُّ الغريبُ بالوصل ِ واللقاءِ، ويهبُ الأعطية َ كأنّما يهبُها لنفسهِ، لا يستكثرُ شيئاً أو يتعاظمُ مالاً.

هذا بالرغم ِ من قلّةِ المال ِ في يده ِ، وعدم ِ اكتراثهِ بطلبهِ، واكتفاءهِ بما يأخذهُ من تدريسهِ بالجامعةِ فقط، فقد كانَ الشيخُ كثيراً ما ينسى راتبهُ في الجامعةِ، ولا يأخذُهُ إلا بعدَ أن يتّصلَ بهِ المُحاسبُ ويذكّرهُ بذلكَ، كما أنّهُ حينَ وُهبَ جائزة َ المدينةِ المنوّرةِ للبحثِ العلميِّ، قامَ وأعلنَ في مُجتمع ِ الحفل ِ أنّهُ تبرّعَ بكامل ِ مبلغ ِ الجائزةِ للجمعيّةِ الخيريّةِ في المدينةِ النبويّةِ، وعندما طبعَ كتبهُ لم يأخذَ عليها أجراً ورفضَ رفضاً تامّاً، وإنّما شرطَ على بائعِها أن تُخفضَ قيمتُها حتّى يتمكّنَ طلاّبُ العلم ِ من شراءه، مع أنّهُ كتابهُ راجَ رواجاً عظيماً، وطُبعَ أكثرَ من خمس ِ طبعاتٍ، كما أنّهُ مؤخراً طبعَ ما بقيَ من أجزاءِ كتابِ والدهِ، وقامَ بتوزيعهِ مجّاناً.

وهناكَ بيوتاتٌ كثيرة ٌ في المدينةِ النبويّةِ تقومُ على ما يُرسلهُ الشيخ ُ لهم من صدقاتٍ وهباتٍ، وقد وقفتُ على شيءٍ من ذلكَ بنفسي، وسمعتُ من غيري من الإخوةِ طرفاً صالحاً.

وهذا غيضٌ من فيض ٍ في حال ِ الشيخ ِ مع الصدقةِ والصلةِ والبذل ِ، ومن عرفَ الشيخَ علِمَ أنّي قصّرتُ في وصفهِ، وأمسكتُ عن كثير ٍ من حالهِ فيهِ، خشية َ أن لا أنسبَ إلى المجازفةِ والمبالغةِ.

ولشيخِنا والدة ٌ يبرُّ بها بِرّاً عظيماً، فهو إنّما يُكثرُ السفرَ إلى المدينةِ ويُقلُّ من المبيتِ خارجَها رِعاية ً لها، وبِرّاً بها، وقد كنتُ في مجلسهِ يوماً بعد صلاةِ المغربِ، فقامَ الشيخُ يُصلّي الراتبة َ، فسمِعتُ صوتاً يُنادي: مُحمّد! مُحمّد!، فقامَ شيخُنا وقطعَ صلاتهُ وخرجَ، فعلِمتُ أنَّ هذهِ أمّهُ، وقد حدّثني – أعلى اللهُ قدرهُ – أنَّ تركَ الرقية َ والقراءةَ على المرضى بطلبٍ من أمّهِ، فلا تجدُ الشيخَ قارئاً على مريض ٍ أبداً، بِرّاً بأمّهِ وصيانة ً لها، وفي أحدِ دروسهِ حرّجَ باللهِ العظيم ِ أنْ لا يحضرَ دروسهُ رجلٌ عاقٌّ لوالديهِ، أو ممتنعٌ عن برّهم، وقالَ: لولا أنّي لا أريدُ أن أحرجَ أحداً، وإلا لأمرتهم بالخروج ِ الآنَ من الدرس ِ، وإذا تكلّمَ عن برِّ الوالدين ِ خشعتْ جوارحهُ، ورقَّ قلبهُ، ودارتْ الدمعاتُ في عينهِ، وشفّتْ روحهُ، رضيَ اللهُ عنهُ وأعلى قدرهُ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير