عرفه طلاب العلم في قطر، ورواد مركز الدعوة، ومسجد عمر بن الخطاب عاشقًا لكتاب الله، جعله سلواه، فكان معه من مجلس إلى مجلس إلى مجلس، لا ينقطع عنه أبدًا .. حتى عند وقع بلاء شديد، حتى يوم ماتت زوجته رفيقة دربه الطويل، دفنها قبيل صلاة الظهر، وعند صلاة العصر كان موجودًا في جامع عمر في حلقة قرآن، كأنه لم يدفن عزيزةً قبل ساعات قليلة، اندهش الصديق العزيز " الشيخ الشحات فريد " من مجيئه، وسأله: حتى اليوم يا مولانا؟ فقال: يا بني: وهل يمنع الحزن أو الفرح من تلاوة كتاب الله؟!!
كان يعرف دقائق القراءات، والوقف، والمعاني وغريب القرآن، بدرجة مدهشة، بذلت ذات مرة جهدًا للمقارنة بين جملة من المصاحف المطبوعة، ولحظت اضطرابًا في قضية الوقف اللازم في نحو سبعة مواضع، فاتصلت أسأله عنها، وكأني " جبت الديب من ديله " فإذا به يسرد عليّ المواضع ذاتها وزيادة خمسة مواضع أخرى، سردًا، دون تعمّل، ولا كدّ ذهن، كأنه كان معي في طوافي بهذه المصاحف.
عرفته وصولاً متواضعًا ـ شديد التواضع ـ حين جئت إلى الدوحة لأول مرة، كنت أحس بالوحدة، لا أكاد أعرف أحدًا، مع عجزي المزمن عن القيام بأمر نفسي، فكان كثيرا ما يزورني بعد أن تعرفت إليه في مركز الدعوة والإرشاد، ويمر بالبيت فيجلس، ويطيل الجلوس مع شاب وحيد، غريب، يحتاج إلى إيناس ومؤاخاة.
في أول عيد مرّ بي لم أكن أعرف ـ تقريبًا ـ غير الأخ علاء رجب الذي " عيّد " معي .. وفي وحدتنا الحائرة العاجزة، إذا بضيف يطرق الباب زائرًا ـ وكان هو الشيخ الذي جلس معنا إلى آذان العصر، يؤانسنا ويتغدى معنا مما " هبّبناه " وزعمناه أكلاً.
وكان كثيرًا ما يأتي حيث أعمل، زائرًا ومسلّمًا، ولا تخلو الجلسة من فائدة علمية، أو لطيفة لغوية، أو سؤال أو مناقشة .. كم كنت أناغشه وأسيء الأدب فيحتملني: يا شيخ: اتق الله .. ستموت قريبًا، ومعك هذا العلم فلا ينتفع به أحد .. اكتب شيئًا ينفعك وينفع الله به الناس.
ويرد عليّ: والله معاك حق .. أفعل إن شاء الله .. وتمر السنة تلحق بأختها، دون أن يترك الشيخ إلا حبّه في قلوب عارفيه، وبعض مقالات يسيرة في الصحف ومجلة التوحيد، وكتابًا سمعنا أنه كتبه في الوقوف في القرآن، نرجو أن يقوم عليه أبناؤه، ويطبعوه علمًا نافعًا، ذخرًا للشيخ عند الله تعالى.
كان متواضعًا ـ ولا أزكيه على الله تعالى ـ لدرجة مخجلة لمن أمامه في كثير من الأحيان، كان ينادي بعض الشبان بقوله يا أستاذي!! ولا يترك محاضرة ولا درسًا في جامع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، أو مركز الدعوة ـ أو غيرهما ـ إلا حضر واستمع بتركيز ـ كأنما يستمع لأول مرة ـ فإذا انتهى المحاضر فربما علق؛ إن احتاجت مسألة ما لتعليق ـ لا يجامل ـ وربما أثنى على المحاضر ومضى.
كان لآخر لحظة في حياته يعطي ـ بسلوكه وخلقه ـ الدرس تلو الدرس: النهم في طلب العلم، والبحث عنه حيث يكون، والتواضع، ولزوم المسجد، وإدمان التعامل مع كتاب الله، والنظر إلى من هو أقل.
لكن آخر درس تعلمته على يديه كان درسًا عجيبًا، كان ـ رحمه الله ـ من مواليد 1920م، ومات عن 77 سنة، سمع آخر سنةٍ من عمره عن الجامعة الأميركية المفتوحة، التي وضعت برامج للماجستير والدكتوراه، فبادرني يستفسر عن مناهجها، ونظامها، ومقرراتها، وأساتذتها، وأعبائها الدارسية، ثم عزم على بركة الله أن يتقدم للدراسة فيها، وجهز أوراقه كاملة، واشترى الكتب المقررة من القاهرة ـ مرة ثانية أذكر أنه كان في السابعة والسبعين من عمره ـ وكان كثر من زيارتي والاتصال بي بهذا الخصوص، أنظر هذا واذكر أن من الشبان حدثاء الاسنان من يظن أنه جمع علم الأولين والآخرين، فهو ـ إذا كلمتّه في مسألة ـ نظر، ثم عبس وبسر، ثم تنفخ واستكبر، ثم تكلم من طرف أنفه، وأخذ يتجمل بذكر " كم عنوان " لكتب، وأسماء لعلماء، ثم قال بلهجة المعظم نفسه وليس معه غيره: قال شيخنا .. حدثنا شيخنا (!!).
ومن عجيب تواضعه ما حدّث أحد أئمة المساجد أن الشيخ بلغه أن هذا الشاب مَكينٌ في القراءات فاستأذنه الشيخ عنتر ليجلس تلميذًا بين يديه، فكان يتوجه إليه بعد الفجر في غرفته بالمسجد، ويتعلم ما شاء الله .. يقول الشاب: ذات يوم كنت في وداع الشيخ عند باب غرفتي بعد نهاية الدرس، وإذا بالشيخ يمسك يدي ويقبّلها، فخجلت، وتصببت عرقًا، وعاتبت الشيخ فقال لي: وماله .. أنت شيخي، ومن حقك عليّ أن أقبّل يدك ورأسك، لأنك من أصحاب الفضل عليّ (!!).
وكان عصاميًا ـ رحمه الله ـ بشكل عجيب .. علّم نفسه الإنجليزية لما أحس بالحاجة لتعلمها، ودرس أصول الفقه، والفرائض، وعلوم السنّة المشرفة، رغم تخصصه في العربية ومناهج التربية .. وانطلق في آفاق علوم الإسلام معلمًا متواضعًا سمحًا وصولاً بشوشًا مجاملاً.
كان يتمنى أن يدفن بالدوحة قريبًا من رفيقة دربه، ثم شاء الله تعالى أن يموت بعيدًا عن عيون عارفي فضله .. لم يسمع الناس بوفاته إلا بعدها بأسبوع، ليدوس على الفلاشات ميتًا كما داس عليها حيًا.
رحمه الله، وقبِله عنده مع العلماء الذين رفعهم بعلمهم درجات .. اللهم آمين.
هذا الرابط:
http://webcache.dmz.islamweb.net.qa/ver2/archive/readart.php?id=11651
¥